فلسطين أون لاين

"التنافس في المعاناة".. الأسباب متعددة والبحث عن حلٍّ أوْلَى

...

غزة - فاطمة أبو حية

يقول المثل الشعبي: "اللي يشوف هم غيره بهون عليه همّه"، لكن هذا لا يحدث دومًا، فالبعض يصمم على إثبات أن معاناته تفوق معاناة الآخرين، وإذا ما سمع عن مشكلة ما، يتحدث عن تجربة مشابهة مرّ بها، وكيف أنها كانت أشدّ وطأة عليه، فإذا قلت أمامه إنك مريض، سيخبرك بأن مرضه أسوأ، وإن حدّثته عن مشاكل العمل، سيبدي تعجّبه من تفاهة مشكلتك أمام ما يتعرض له في عمله.

أما إن شكوت من سوء حالتك المادية، سيقول لك: "ماذا أقول أنا! فوضعي أسوأ".. هكذا هو حاله أمام كل شكوى يسمعها ينافس الشاكي على درجة المعاناة، ليثبت في النهاية أن وضعه أكثر صعوبة، عن "التنافس في المعاناة" أعدّت "فلسطين" التقرير التالي.

وهل هذا مرض؟!

يتحدث "محمد صافي" (36 عاما) عن موقف لا ينساه عن هذا الشكل من التنافس: "زميلي في العمل من هذا النوع، يشكو دومًا، ويتذمر من أي شيء، وإذا ما سمع بمشكلة ما، فيكون همّه الأول أن يتحدث عن معاناته التي تفوق معاناة صاحب المشكلة، ولديه دوما قصص جاهزة يستحضرها في هكذا مواقف".

ويضيف: "قبل سنوات، أُصبت بمرض لعدة أشهر، جعلني شبه مُقعد، ناهيك عن الألم الشديد في جسدي كلّه، لم يسأل هذا الزميل عني ولم يزرني للاطمئنان على صحتي، ولكني عندما عدت لممارسة عملي لأول مرة بعد أسابيع من الانقطاع، بدأ يحدّثني عن مشاكله الصحية، رغم أنه يرى حالي وأنني بالكاد أتحرك، وعندما حاولت إظهار طبيعة المرض له، فاجأني بسؤاله: (وهل هذا مرض؟! لو عرفت الآلام والأوجاع التي أشعر بها لعرفت أنك بخير)".

وعن الأمر ذاته، تقول "نورا النجار": "أكره هذا الأسلوب، وللأسف يتبعه الكثير من الناس، وكأن المعاناة حكر عليهم، ولا أحد يعاني سواهم"، مضيفة: "لا أعرف ما الذي يجنيه هؤلاء من إصرارهم على أنهم أكثر ألمًا من غيرهم، المعاناة ليست شيئا جميلا نتباهى به".

وتتابع: "أفضل السكوت عندما يتحدث هؤلاء، حتى إذا كنت أثق تماما أن مشكلتي أكبر من مشكلتهم، فهم لن يتراجعوا عن موقفهم، بل سيحاولون إثبات أن معاناتهم أكبر بطرق أخرى، لذلك أختصر الطريق وأنهي النقاش".

لاستجلاب التعاطف

الأخصائية النفسية بمركز فلسطين للديمقراطية وحل النزاعات سمر قويدر, تقول: إن التنافس في المعاناة يحتمل أن يكون ناتجًا عن عدّة أسباب، فقد يكون نتيجة لضغوط نفسية واجتماعية وبفعل ظروف أسرية صعبة تشكّل معاناة عند الشخص، أو يرجع لكون الشخص يعيش مجموعة من الضغوطات المتراكمة والناتجة عن أكثر من سبب، مما يجعله يستصغر معاناة الآخرين ويرى أن معاناته تفوق ما يعانيه أي شخص آخر.

وتضيف لـ"فلسطين": "قد يكون الشخص الذي يسرد معاناته ليس من طبعه يشكو كثيرا، ولا يتحدث باستمرار عن همومه، مما يعني أن الآخرين غير مطلعين على المشكلات التي يمرّ بها في حياته، وهذا يجعل من يسمعه يظن أنه لا يعاني من أي ضغوط أخرى، وبالتالي يرى أن مشكلة واحدة ليست معاناة تُذكر"، متابعة: "وربما يكون الشاكي مُحاطًا بأشخاص داعمين ومساندين له، فيرى الطرف الآخر أن وجود هؤلاء الداعمين ميزة تخفف الضغوط، وبالتالي فإن معاناته أكبر لكونه لا يجد هؤلاء الناس حوله".

"المَسْكَنة" من الأسباب الأخرى لإبراز المعاناة التي تتحدث عنها قويدر، إذ تقول: "يتبع البعض هذا الأسلوب لاستجلاب التعاطف، فعندما يرى أن الناس تعاطفت مع صاحب مشكلة ما، فإنه يحاول أن يظهر أن مشكلته أكبر، ليكسب دعمهم ومساندتهم له"، مضيفة: "البحث عن الاهتمام بهذه الطريقة يكون ناتجًا في أغلب الأحيان عن فقدان الدعم الأسري ومحاولة البحث عنه عند أطراف خارجية، أو بسبب ما يُعرَف بـ(الغيرة المَرَضية)".

ليس حجّة

وتؤكد قويدر أن الأصل في التعامل مع المعاناة هو التفكير في إنهائها وإيجاد حلٍ لها وليس محاولة إثبات أنها أكبر من معاناة الآخرين، مبيّنة: "أي معاناة، لا بد أن لها سببًا نتجت عنه، وهذا السبب هو ما يجب معرفته وتحديده وتغييره بما يؤدي لحلّ المشكلة أيًا كانت، لكن ما يفعله البعض أنهم يسعون للتخفيف عن أنفسهم من خلال البحث عن التعاطف والدعم من الآخرين، مع البقاء في دائرة الشكوى".

وتوضح: "التعامل مع المشاكل بهذه الطريقة يجعل صاحبها مقتنعًا بضخامة معاناته، فيتكاسل عن إيجاد الحل المناسب، ويرى أن حياته معقّدة ومليئة بالضغوطات دوما، وأنه غير قادر على تجاوز مشكلاته".

وفيما يتعلق بالتعامل مع من يحاول إثبات أن معاناته تفوق معاناة غيره، تبيّن قويدر: "ينبغي تنبيهه إلى ضرورة حل مشكلاته دون انتظار الحل من الآخرين، وأن المعاناة لا تعني توقف الحياة، بل لا بد من استمرار العمل وتطوير النفس، وأن وجود المشكلات ليس حجة للكسل وعدم العمل".