فلسطين أون لاين

تقرير تجارة الذهب في غزة.. أصل الحكاية

...
652A0085.JPG
غزة/ يحيى اليعقوبي:

يشع بريقها الأصفر المتوهج، كسحر شمس تبث أنوارها، تحيط بها هالة كلونها مع انعكاس الضوء، يمنحها انعكاس على الزجاج مزيدًا من اللمعان؛ الصناديق تحتفظ بأصناف من الحلي والخواتم والأساور الذهبية وكأنها أسيرة بداخلها، فلا مدة هنا لتحررها وانعتاقها من تلك الصناديق إلى يد الزبائن.

تحت سقف سوق الذهب بمدينة غزة، الذي يعكس هوية المكان، وأصالة مهنة  تتوارثها الأجيال، ما أن تلج عتبة السوق بممره الضيق يتهافت عليك التجار والبائعون، الذين يقفون أمام محال لا تتجاوز مساحتها 2-3 أمتار مربعة، في سوق يزن سعر الـ "السنتيمتر" بالذهب نفسه، لكن كانت أعدادهم تفوق أعداد الزبائن الذين جاؤوا لبيع مقتنيات ذهبية احتفظوا بها لـ "يوم عوزة".

على مدخل السوق، تمر عبر بوابة غربية تحت ظلال قباب دائرية تمتد عبر ممر حجر، تضيئها واجهات لامعة وبراقة، في الأعلى تنخر الرطوبة سقف السوق وجدرانه، تقابل محال صغيرة متراصة ربما يصل عددها في كل اتجاه إلى 18 محلا، يفصل بينها ممر ضيق لا يتسع لأكثر من شخصين حتى تصل على بعد 100 متر من المسير إلى نهاية السوق والباب الغربي الذي كان يغلق قديما.

وسوق الذهب " القيسارية " يعتبر معلماً تاريخياً وتراثياً، ولا يزال شامخاً حتى يومناً هذا، ويتردد أن قاضي غزة الشيخ شمس الدين زنكي الحمصي أمر ببنائه في عام 1476 م، في بدايته كان عبارة عن تجمع لعدد من التجار وكانوا يأتون إليه من كافة الأماكن عبر الخيل، وكانوا يضعون خيولهم في الأماكن التي أصبحت الآن مكان محلات الذهب، وقبل أن تصبح محلات للذهب كانت وفق حديث أصحاب المحال تخصص لصناعة الأحذية والجلود.

يعود التاجر ياسر حبوب الذي يعمل بمهنة الذهب منذ عام 1981م، في حديث مع صحيفة "فلسطين"، إلى تاريخ المهنة في قطاع غزة، قائلا "كانت المهنة في البداية تورث، لكن اليوم بدأت تنتقل بالتعليم، مع تطور نظام الحاسبة والموازين والتكنولوجيا".

في بداية الستينيات من القرن الماضي لم يكن لدى الناس أموال لشراء الذهب، "كانت السيدة تأتي للصائغ بليرة ذهب لعمل حلق أو بيع عدة ليرات احتفظت بها قبل التهجير القسري (النكبة الفلسطينية عام 1948) " يقول، ثم يتابع: "كانت في الأربعينات تساوي قيمة الليرة الذهب قيمة الجنيه الفلسطيني في التداول، فإذا أردت شراء قطعة أرض فإنك ستدفع مثلا 50 ليرة ذهب أو 50 جنيهًا".

وأنت تجلس في محل حبوب، بعد  مرور عدة دقائق على بداية حديثه، لا تلمح أي زبون يأتي للسؤال أو معاينة الذهب المعروض بجاذبية، فالجاذبية هنا "لا تنفع مع غياب المال لدى الناس، وعدم المقدرة على شراء الذهب".

ويعاود الحديث بعدما أطلق ابتسامة تهكم على واقع الحال: "في الأربعينات وما بعدها كان التجار والناس يشترون الذهب من مصر، أما الصناعة في غزة كانت مقتصرة على "الخاتم والحلق"، وبعد الخمسينيات أصبحوا يستطيعون صناعة الأسورة، وظل سوق الذهب ضعيفًا حتى السبعينيات مع بدء العمل داخل الأراضي المحتلة سنة 1948 وكان العمال يشترون الذهب لادخارها كـ "ملاذ آمن".

"بعد السبعينات، تطورت صناعة الذهب في غزة، والبعض ذهب لإيطاليا وأحضر ماكينات وبدأوا بعمل اساور "الحية" (قلادة)، وكانت هذه المهر وكان سعره قليلًا فيعادل جرام الذهب من 5 إلى 7 دنانير" .. يقول: "أما التطور الآخر الذي حدث بعد الثورة التكنولوجية وظهور الموازين والآلة الحاسبة، وأصبحنا نصنع "العقد" وما لا نستطيع صناعته كنا نحضره بتلك الفترة من الضفة الغربية والأردن".

التطور الثالث الذي حدث، تبعا لكلامه، بعد 1993 تمثل بإنشاء مديرية للذهب والهدف منها المحافظة على قيمة وجودة الذهب، بأن يكون العيار سليمًا 100%.

يمسك أحد الخواتم متباهيا بجودته: "هدا عياره سليم .. وأي دولة لما تشوف ختم فلسطين بتشتريه لجودته"، لكن لم يكن الحال عليه في فترة السبعينيات، كان من الصعب بيع الذهب المصنوع في غزة في الدول الأخرى.

السبب؟ .. "لأن نسبة الأخطاء كانت مرتفعة ولم يكن عيار 21 صافيا" يرد: " وفي أواخر التسعينيات ألزمت  مديرية الذهب الصائغين بعمل فحص لديها وختمه للتأكد من العيار، واليوم توازي معايير صناعة الذهب لدينا أفضل المواصفات العالمية، فمثلا عيار 21  يتضمن 875 ذهب صافي، 125 عبارة عن نحاس وفضة لتقويته لأنه لا يمكن تشكيل وصناعة الأشكال الذهبية بالذهب ويحتاج لبعض الصلابة، أما عيار 18 فيتضمن 750 ذهب و250 من النحاس والفضة".

اليوم تطور الذهب وأصبح هناك مصانع مختصة في كل صنف في القلائد المختلفة، والعقود، والخواتم، عن طرق تشكيله يقول بعد مرور نحو نصف ساعة دون حضور أي زبون: "يأتون بالشمع من تركيا، ويصنع منها تعلق على فروعها شمع (قالب) للخواتم ويسكب فيها الذهب".

واقع حالي

المشكلة التي تواجه الذهب حاليًا، أن الاحتلال يمنع ادخاله إلى غزة منذ فترة كبيرة، يعلق حبوب بعد ابتسامة ساخرة: "المشكلة انه اللي وضع الاتفاقية الاقتصادية مع الاحتلال ناس بتعرفش شيء عن الحياة الاقتصادية وحتى الان يتعامل الاحتلال مع الذهب على انه سلعة".

"اليوم شايف ايش ضايل للعيد، فش قوة شرائية عشان الناس تشتري ذهب، اليوم ما استفتحتش" .. أمام ما يعرضه حبوب لواقع الذهب، فإنه كما يقول يواجه خطر "الانقراض" شارحا السبب: "الناس اليوم تقسط المهور، ويأتون غالبا لشراء ذهب بقيمة ألف دينار وبالكاد يستطيعون شراء 30 جراما، أما قبل عشرين سنة فكانت الألف تشتري 200 جرام".

يضحك بعد أن وضع يده على خده: "بدك تصنع شغلة  بدك تحط ايدك على خدك تقعد تتفرج عليها".

في سوق الذهب يبلغ سعر المحل الواحد 100-150 ألف دولار، وفي فترة من الفترات كان يبلغ سعره 250 ألفا، وفق حبوب الذي يختم بأن العديد من أصحاب المحلات هنا أغلقوا، وحل مكانهم آخرون، بعض التجار أفلسوا، مردفا: "الذهب في غزة أقل من سعر التداول العالم بنسبة 10%، فمثلا في ظل فيروس كورونا نشتري الغرام بـ 31 دينارا ونبيعه بـ 32 دينارا، وسعره بالضفة يشترونه بـ 35 دينارا أي أن الفرق 4 دنانير، رغم أن النسبة كانت متساوية قبل الفيروس".

 

 

المصدر / فلسطين أون لاين