فلسطين أون لاين

قراءة في قصة قصيرة للكاتب الفلسطيني "زياد خداش"

هل تضحك المدينةُ حقًا؟

...
هند جودة

زياد خدّاش، كاتبٌ استثنائيّ، عوالمه تشعّ منها عاطفة متوهجة، يحملك على كفيه كطفل حين تقرّر أن تقرأه فيسحبك من قلبك إلى نصّ ما، هو الذي تتنوّع كتاباته بين القصص القصيرة والمقالات الأدبي.

قرأت مرارا ومنذ زمن قصته "مدينة تضحك، رجلٌ صامت"، و وجدت انني لا أستطيع المرور عن هذه القطعة المجنونة ، يجب أن أقف هناك طويلا ويجب أن أضيء على دهشتي.

تبدأ القصة ب "نهار عاديّ، هكذا بدا"، وفي هذه البداية يفتح الباب على احتمالات أخرى ليشدّك كمنوّمٍ لا تلبث أن تصحو على "شمسٍ طفلة" ويصرخ شيءٌ فيك للتعبير المدهش حين تراها تركضُ نحو "شبابٍ عنيف"، يعود بك لنقطة البداية عن كون اليوم عاديّا جدا أكثر من اللزوم ويضيف" هذا ما أخافني".

يذهب زياد في قصّته التي لم يكن فيها شخصيّة سواه، هو بذاته الكاتب "زياد خدّاش" الذي لديه موعد مع طالبة جامعية تودّ مقابلته لاستفسار ما حول كتاباته.

يصف لحظات انتظارها بأنه يقضيها غارقا في كتاب ما، وفيما هو منغمسٌ في القراءة تماما، يفاجأ بضحكة صاخبة تخرج من شاب في المقهى، ما إن ينتهي من ابتلاع الازعاج الذي حدث حتى تتوالي الضحكات المجنونة كمفرقعات نارية في داخل المقهى، الكلّ بدأ يضحك بجنون، وبطريقة مقزّزة وفظّة، حاول أن يعطي مبرّرا لذلك، بأنه يعيش في وطنٍ فيه أشياء كثيرة تضحك حدّ الوحشية، وقرّر ألا يستهجن الأمر تماما، وأن يعود لكتابه وانتظاره، لكن الضحك لم يتوقف عن الانفجار وكان يزداد وحشيةً.

قبل أن يخرج هاربا من مقهى الضحك قال: إنّ "الشمس كبرت، وصارت مراهقة"، وهنا لا أعرف أحدا قد وصف مرور الوقت بمثل هذه الفنية العالية والبراعة على كثرة قراءاتي.

هرب الكاتب إذن إلى الشارع، مشى، وقف، جلس، توقّع اتصال الفتاة صاحبة الموعد، هرب إلى المقبرة ثمّ هرب منها، رأى الناس وحتى الكلاب تصاب بداء الضحك وكأنه فيروس ينتشر في الهواء سريعا، جنّ جنونه وسقط ثمّ زحف على بطنه تاركا الحقيبة والكتاب بكلّ تيه وتوتر، وتساءل إلى أين امضي يا إلهي؟!

يقول زياد" أنا احب الضّحك، ولكن ليس دائما، وضحكي معقولة ضجّته، وهو خفيضٌ وراقي، هل هناك ضحكٌ راقي؟" يتساءل زياد وكأنّه بدأ يسخر من نفسه،. ثم يقول "إن الضحك العنيف هو كما يحسّه" آلية دفاع غير واعية ضدّ عنفٍ متوقّع، أو خوفٍ دائم من خطرٍ ما" وهنا يسلّط الضوء على نفسه ويسأل:"هل يعني هذا أنني لا أعاني خوفا ما وأنني خارج قانون النفس البشرية؟ وخارج تأثير أوضاع البلد؟"

تعرف أن النهار بدأ ينتهي، حين يصف زياد خدّاش الشمس بقوله" كم أنتِ مراوغة أيتها الشمس العجوز" يأخذ طريقه للعودة إلى "غرفته الصغيرة" على طرف البلدة، ويقول غدا سأبحث عن حقيبتي والكتاب، فيما يبدو أنه متعبٌ، يائس، محبطٌ، مذهولٌ، يحاول الهرب إلى صمت عالمه وهدوئه الخاصّ، بعد هذا اليوم الذي ما كان عاديّاً ،وقبل نهاية هذه القصّة الساخرة، المحيّرة، وغير المعقولة،

لن يريحنا زياد خدّاش ليقول أنه في كابوس ٍ ما أيضا، ثمّ يأتي صوت داخل رأس الكاتب يقول له: "بالتأكيد اتصلت الطالبة على الهاتف الذي هو في الحقيبة الآن، يرنّ أو لعلّه يضحك!"، ثمّ أخذ بدوره يضحك بشكلٍ هستيريّ، هكذا تقول لنفسك، سيضحك ،وترتسم ابتسامة ساخرة على وجهك، لكن زياد خدّاش لا يعطيك هذه الفرصة، لا يريد أن يسمعك تقول أمسكت بك تضحك، على الأقل ليس بهذه السرعة!

تمهّل جدا وهو يصفُ الذي مازال يحدث في المدينة يقول" تجمّع الناس حولي، كانوا يضحكون، الكلّ يضحك بصوتٍ عالٍ ومخيف، المدينة تمتلئ بالضحكات، الضحكات تسيل على الشوارع، وتفيض على المفارق والمنحدرات"

وبدأ بالهرب مرّة أخرى و صوت الضحك يملأ الأماكن، كأنه سيلانٌ ماديّ محسوس.

بدا زياد باحثاً عن أسباب لهستيريا الضحك ذاك بلا هدى، ثمّ وليكتمل المشهد كما ينبغي لكابوس جاءت اللحظة الأخيرة في القصّة، والتي قرّر فيها أن ينضمّ أخيرا إلى الجمهور الضاحك، لكنه قرّر حين يضحك هو أن نصاب نحن بالدهشة! وأن لا نفعل سوى أن نصمت ونفكّر، وربما نحزن، وتثار في دواخلنا أسئلة كثيرة، إذ أنه وفي النهاية سكتت المدينة تماما ووجد نفسه يضحك وحيدا.