فلسطين أون لاين

استشهد في أثناء تقديمها الامتحانات

على قبر والدها "تفي بالوعد".. قمر تمنع انكسارها بإتمام التوجيهي

...
غزة- يحيى اليعقوبي:

الآن تلتقط نفسًا وتتخاذل عن الآخر.. وكأنها تتنفس بنصف قلب، ونصف رئة، ونصف فرح، اليوم لن تتكبد عناء تشكيل ملامح وجهها لتبدو بخير، وسعيدة أكثر مما يجب، فالجرح حفر حفرة عميقة داخل قلبها، إلا أنها كانت راضية عن نفسها بعد أن نفذت وعدها لأبيها وذهبت تخبره بنتيجتها في الثانوية العامة هناك على قبره، وهي تغسله بدموعها.

وقفت الفتاة أمام قبر والدها؛ ودنت من اسمه، وهي تحمل صوته، وطيفه بذاكرتها، وأنصاف ابتسامة مرسومة على خدها ودموع ترافقها، تخاطب روحه: "تعبني السهر يا أبي .. تعبت من الأرق، من الوجع، آه لو كنت معي لنحتفل معًا، ونلبس ثوب الفرح الذي تمنيته.

الإلهام الذي سطرته قمر ليس نتيجتها في الثانوية العامة وحصولها على معدل 70.9%، بل أنها تلقت خبر استشهاده في أثناء تقديمها امتحانات التوجيهي.. عضت على جرحها ورممت أحزانها، وتحدت نفسها والظروف التي وجدت نفسها فيها لتكمل تقديم الامتحانات والمذاكرة في حين كان الناس يأتون إلى منزلها لتقديم التعازي.

قمر (18 عاما) ابنة الشهيد رامي الغلبان، الذي ارتقى في يونيو/ حزيران متأثرا بإصابته في مسيرات العودة وكسر الحصار السلمية في الثالث من آب/ أغسطس 2018، أصرت على إكمال الامتحانات على الرغم من استشهاد والدها خلالها.

خبر مؤلم

الآن أنارت قمر ظلام الحزن المخيم على منزل عائلتها، عبر سماعة الهاتف بدت سعيدة كذلك، يأخذها صوتها إلى لحظة استشهاد والدها: "كنت عائدة من تقديم امتحان اللغة العربية (الورقة الثانية)، وفي أثناء سيري بالطريق عائدة إلى المنزل أخبرت باستشهاد أبي (...) كانت حالته خطرة لكن رحيله كان صادما ومفاجئا لأن إصابته كانت في القدم".

لا يفر من ذاكرتها آخر حديث جمعها بوالدها: "كان ذلك قبل سفره للعلاج بمستشفيات الضفة الغربية، في ليلة العيد، واكتشفوا أن لديه تسمما في الدماء، يومها عيدني (إهداء نقود) وقال لي: "حضري حالك مضلش وقت لتوجيهي" وأوصاني بالقراءة والمذاكرة، كنت أطلب من والدتي الذهاب لزيارة أبي بالمشفى لكنها كانت تطلب بأن أبقى أذاكر".

لكن لم يكن الأمر سهلا، تتوقف عند تلك اللحظات: "في البداية شعرت أنني مشتتة، لا أستطيع المذاكرة، في امتحان مادة التاريخ في اليوم التالي شعرت أنني استسلمت، لم أستوعب شيئا، كنت غارقة بالحزن أفكر برحيل أبي، ولا شيء أكثر من ذلك وسواه، كنت أرى صورته مطبوعة على الكتاب، كلما قلبت صفحة وراء أخرى رأيت طيفه أمامي".

"جاءني أعمامي وحتى صديقاتي، وطلبوا مني تأجيل تقديم الامتحانات لشهر آب/ أغسطس، لكني حسمت أمري وقراري وقلت لهم: راح أكمل زي ما كان بده والدي، أكثر ما كان يحفزني على المذاكرة وصيته لي: بدي أحكي بنت الجريح جابت معدل حلو، فقلت والآن وقد أصبحت ابنة شهيد الأمر يحتم علي عدم خذلانه" .. تستذكر كيف عاشت أصعب يوم عليها.

حملت قمر شعار "لا يمكن أن يكون هناك كسر آخر في هذا البيت"، وعملت بجد لإدخال الفرحة الأولى، فهي إضافة لأنها أخت وحيدة لخمسة أولاد البكر لعائلتها.

تردف وكأنها جمعت روحها في تنهيدة واحدة: "لم يكن الأمر بسيطا ولا سهلا، ففي اليوم التالي من العزاء ذهبت إلى بيت خالي للمذاكرة، كنت أجبر نفسي لأنفذ وعدي لأبي (...) كانت زوجة خالي تحفزني على الدراسة".

توتر وفرحة

كيف عشتم لحظة النتائج؟.. تعيد ترتيب المشهد من جديد: "أمي كانت متوترة، وكذلك كنت معها، لم نستطع إمساك الهاتف، فحملته عمتي نيابة عني، وما إن أبلغتني بالنتيجة (70.9%) احتضنت والدتي، وذهبت لصورة أبي وصرخت فرحة: هيني نجحت وعملت اللي بدك إياه، وجاءت جدتي وأعمامي وعمت الفرحة أرجاء المنزل".

تقول: "كنت خائفة من امتحان مادة الجغرافيا، حتى توقعت أن أرسب فيها، لأني لم أكن بخير يومها للمذاكرة، والآن سأخطو نحو أمنية أخرى لوالدي وهي أن أدرس "التمريض" ولأن معدلي في الفرع الأدبي لا يناسب مفتاح التخصص، سأدرس الدبلوم ثم "التجسير" لنيل البكالوريوس".

"بدي اياكِ ترفعي راسي .. انتِ عندي البنت الوحيدة، بدي تدخلي فرحة توجيهي على البيت" ظل كلام والدها هذا يرافقها، اقتربت من قبره وأخبرته: "الآن تحقق ما تمنيت ودخلت الفرحة"، تعلق على إصابته واستشهاده: "أبي أصيب بمسيرات العودة بقدمه اليمنى برصاصة متفجرة، وكانت بحاجة إلى بتر، لكن تضاعفت حالته بعد ذلك وأدت لإصابته بفشل كلوي وتدمير الكبد والرئتين وتسمم في الدم حتى استشهد".

آمنت قمر أن" العزيمة والإصرار صفتان يجب أن يتحلى بهما الإنسان للسير نحو هدفه؛ وأن تجاوز المحن والأحزان أمر ملح للخروج من الانكسار، والصبر على الفراق والفقدان بالمزيد من العزيمة"، فكان رحيل والدها وقودا أشعل حافزها الداخلي للاستمرار والنجاح.