فلسطين أون لاين

العرب والزعامة المفقودة

ما من شك في أن الزعامة ملَكة وهبة من الله سبحانه وتعالى، فهي ليست علمًا يُدرَس، ولا مهارة تُكتسب، وإنما هي مزيج من مميزات شخصية، صقلتها تجارب ومواقف، وأشبعتها معرفة وحكمة، وهذَّبتها قوة روحية صافية، فصنعت زعيمًا له تأثيره الخاص على مجريات الأحداث، تفاعل معها واستشرف مآلاتها فصنع منها التاريخ.

ولقد مر عبر التاريخ قادة كثر، وضعتهم ظروفهم في سدة القيادة، منهم من أحسن ومنهم من أساء، ولكن قلَّما حدَّثنا التاريخ عن زعماء غيَّروا مسارات الأحداث، ووضعوا نقاطًا فاصلة بين مراحل التاريخ، فخلَّد الزمان ذكرهم وسيرتهم.

ليس غريبًا أن تهفو قلوب العرب نحو أردوغان الزعيم التركي الذي ألهب نفوس العرب قبل الأتراك بمشاعر جياشة تحن إلى ماضٍ مجيد، ولم تكن تصرفات أردوغان لتلقى هذا الاهتمام لدى الشعوب العربية على أهميتها لو كان لديهم زعامة مقنعة يلتفُّون حولها وتصبح لهم مصدر إلهام.

 وربما لو كانت لديهم مثل هذه الزعامة لأنِفُوا أن ينظروا لأردوغان نظرة الزعامة تلك، خاصة أنهم عبر التاريخ يميزون أنفسهم -باعتبارهم عربًا- عمن سواهم من الأعاجم، حتى لو كانوا على دينهم نفسه، وما قصة أبي مسلم الخرساني أو البرمكي بغريبة عن هذه الثقافة المتأصلة في نفوسهم، حتى أن الحديث الشريف جاء ليكسر هذا الاعتزاز بالعِرق من خلال قوله صلى الله عليه وسلم: "لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى" وكأن الحديث الشريف يخبرنا أن العرب يعدون أنفسهم أشرف نسبًا وأنقى عِرقاً وأصلاً وأعظم فضلاً عمن سواهم من الأعاجم، فجاءت القاعدة النبوية لتقرر أن الفضل بالتقوى، والتقوى فقط.

فكيف والحال هكذا؟ لقد سلم العرب قلوبهم وعقولهم لأردوغان التركي الأصل، ولم تفلح كل محاولات إعلام بعض القادة العرب النيل من شخصية الرجل، أو تحويل قلوب المحبين العرب عنه.

لا شك أن الإجابة الواضحة أن العرب يفتقدون الزعامة القوية التي تجبر العالم على احترامها وتجعله يحسب لها ألف حساب، خاصة حينما تُعزَّز هذه الكاريزما القيادية بمواقف تزيد من حضورها الإقليمي والعالمي.

 لقد بدأت أولى حلقات بروز هذه الشخصية الطاغية عند العرب في مؤتمر دافوس عام 2009 حينما واجه أردوغان الرئيس الصهيوني شمعون بيرس بقوة، ووصفه بالقاتل ووصف دولته بالمارقة في الوقت الذي كان يجلس فيه أمين عام الجامعة العربية عمرو موسى كتلميذ مؤدب بين يدي بيرس، ثم تألق نجم الرجل حينما أمر بإسقاط الطائرتين الروسيتين فور اختراقهما الأجواء التركية، فكان مشهد عزِّ تاقت له قلوب الجماهير، وتوهجت الكاريزما القيادية له، وظهرت جلياً في تصديه لانقلاب العسكر ورفضه الاستسلام أو الهرب، ثم أخيراً بموقفه من تدخل قوات عدد من الدول شرق سوريا، وإجباره قوات الولايات المتحدة على إفساح الطريق للقوات التركية لتأمين منطقة شمال سوريا التي تمثل العمق الإستراتيجي للأراضي التركية رغماً عن المعارضة الأمريكية لهذا التصرف، وأخيراً وليس آخراً مساندته لقوات حكومة الوفاق ومساعدتها في كسر هجوم حفتر وتحرير الغرب الليبي كاملاً والبدء في الزحف نحو الشرق، وثم توجت أعماله بتحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد، كل ما سبق عزز شخصية أردوغان تعزيزًا غير مسبوق، وجعل منه زعيماً تهفو إليه قلوب الملايين، لأنها وجدت فيه ما يعبر عن عزتها وكرامتها وتطلعاتها وأحسَّته الأمين على تطلعاتها وثورتها، وأعاد إلى ذاكرتها ماضيًا عريقًا عزيزًا.

لذلك وجدت زعامة أردوغان طريقها إلى قلوب العرب في ظل غياب تام لأيِّ شخصية عربية قد تنافسه ولو بشيء بسيط من الحضور، بل على العكس تماماً، فما يوجد من زعامات وقيادات عربية لم تمثل للشعب العربي إلَّا الذل والهوان والخضوع والهزائم أمام العدو، وفي الوقت نفسه الظلم والجبروت والطغيان والفساد تجاه الشعب، وأمام هذا الواقع كان أردوغان هو الزعيم وهو المعلم الملهم، تمثل فيه عبق التاريخ وألق الحاضر وجمال المستقبل. فلا تلوموا الشعوب على خياراتها.