تدرك (إسرائيل) أن البيئة الإستراتيجية من حولها تتغير وأن نجاحاتها السابقة في حروبها ضد العرب وقدرتها على سحق الخصوم في أرض المعركة لم تعد بالشيء الهين الذي يمكن تنفيذه في المنطقة، فقد بات جنرالاتها المخضرمون ممن عايشوا بطولات الحروب الإسرائيلية، وكذلك رؤساء الأركان ووزراء الحرب يشعرون بالفارق الكبير اليوم، بعد أن كانت (إسرائيل) صاحبة الضربة الأولى واليد العليا في المنطقة، وتتربع بقوتها لتفرض التفوق الأحادي، لتصبح في مهب الريح أمام تحول دراماتيكي وتحديات ومخاطر كبرى.
فالمشد تغير تماما والرمال بدت متحركة أسفل هذا الكيان، كما أن حدوده الزائلة هي الأكثر قلقا وتوترا، وحتى منظومتها الدفاعية ظهرت وكأنها في حالة خمول أمام نشاط الصواريخ التي تنهمر في جولات مختلفة وتنطلق من الجبهة الشمالية حيث مقاتلي حزب الله في لبنان، والجبهة الجنوبية حيث حماس والجهاد الإسلامي وفصائل المقاومة كافة، فكلتا الساحتين بدت ملتهبة وإن ظهرت على غير ذلك في الوقت الحالي، فعلى الجبهتين ترتفع وتيرة التسليح والاستعداد، والمناورات التي تجرى بين الفينة والأخرى تشير لذلك.
فالجيش الإسرائيلي يكثف من نشاطه في محاولة لمنع تدفق الأموال، وإغلاق جميع المنافذ التي يمكن أن تشكل خطوط إمداد، ويقوم باستهداف قوافل وأماكن تخزين، وقد وصلت طائراته لاستهداف أماكن مختلفة داخل الأراضي العربية، في لبنان، وحدود ليبيا، والسودان، وسوريا، والحدود العراقية، وهجمات سيبرانية مؤخرا ضد أهداف إيرانية، فضلا عن تعقب حركة النشطاء في هذا العالم والذين تتهمهم (إسرائيل) بتنفيذ أنشطة تدعم اعمال المقاومة سواء بالفكرة أو جمع المال أو نقل الخبرات والتدريب، ليغتال بعضهم في ماليزيا ومنهم العالم فادي البطش، وفي تونس محمد الزواري، وفي الامارات محمود المبحوح، وغيرهم قائمة طويلة في بلدان أخرى.
هي تريد خفض مستوى التهديد ومنع تنامي قوى معادية إلى جانب الحدود الأمر الذي يشكل خطرًا محدقًا على الأمن الإسرائيلي، وبالتالي فإن مخاوفها في تصاعد على الرغم من أنشطتها المستمرة، فالإسرائيليون يشاهدون ثمار الحرب الأمريكية على العراق وكيف سيطرت التنظيمات والجماعات المسلحة على المشهد وبدا لها القدرة على التأثير في المشهد السياسي، وما يخيف (إسرائيل) أن هذه الجماعات تنضم تدريجيًّا إلى جبهات معادية لـ(إسرائيل) وتطلق التهديدات بين الفينة والأخرى، وهذا ما يفسر الهجمات التي يمارسها الجيش الإسرائيلي على الحدود العراقية.
هذا إضافة إلى الخطر الأكبر وهو سعي إيران لامتلاك قدرات نووية ومسابقة الزمن لذلك، والدعم الإيراني المتواصل لكل الجبهات ورفع مستوى التنسيق معها وفق مفهوم الجبهة الواحدة، في مواجهة (إسرائيل)، فخيبة الامل تجتاح (إسرائيل) بعد أن تورط وزير الحرب السابق نفتالي بينت في تصريحات تثير السخرية مدعيا أن القوات الإيرانية بدأت بالانسحاب من الأراضي السورية بفعل الهجمات الإسرائيلية، لكن الحقيقة مختلفة تماما ما زالوا يعقدون مزيدا من الاتفاقيات ويمارسون تأثيرا مباشرا، ويضاعفون الدعم للنظام السوري، والدفاعات الجوية الإيرانية قد تكون في طريقها قريبا لدمشق.
وتنظر (إسرائيل) في ذات الوقت للحرب التي يشنها التحالف العربي بقيادة السعودية والإمارات والنتائج الكارثية التي آلت إليها بعد الفشل الذريع في حسم المعركة أو تحقيق مستوى من الردع، وقد منيت هذه القوات بهزائم متكررة بعد اعتمادها في جل المهام على القوات الجوية، بعد الإخفاق البري ووقوع العشرات منهم بين الأسر والقتل على يد المقاتلين اليمنيين من جماعة الحوثي وحلفائهم من باقي الجماعات.
فالخطر لم يتوقف على بقاء النيران مشتعلة في اليمن، فقد بدأ مقاتلي الحوثي بشن هجمات عبر طائرات مسيرة وصواريخ باليستية في إطار الهجوم المضاد داخل الأراضي السعودية فكانت المطارات، والقواعد العسكرية، والمنشآت الحيوية هدفا مركزيا، وما زالت نبرة التهديدات مرتفعة بعد تهديدهم بتوسيع رقعة الاستهداف قريبا.
وفي سوريا يلتقي اللواء محمد باقري رئيس أركان الجيش الإيراني مع وزير الدفاع السوري على عبد الله أيوب، وذلك لإبرام اتفاق جديد يقضي بتعزيز منظومة الدفاع الجوي وربما تزويد النظام السوري بمنظومة (خرداد 3) مما يشكل تهديدا خطيرا لـ(إسرائيل) التي لم تتوقف عن شن الهجمات على الأراضي السورية في محاولة للتأثير على الوجود الإيراني، ومنع تشكيل قواعد جديدة يمكن أن تكون معدة لاستهداف (إسرائيل).
واللافت في الأمر أن هذه المنظومة بالتحديد استخدمت في اسقاط الطائرة المسيرة الأمريكية (قلوبال هوك) وهي الأكبر حجما والأكثر تطورا، وهذا ما يخلق تحدي جديد أمام الطائرات الإسرائيلية، ولا ضمانات لبقائها فقط في سوريا فربما تصل هذه المنظومة إلى لبنان حيث مقاتلي حزب الله، فالقرار واضحا بأن الإيرانيين يريدون تغييرا جذريا وحماية إضافية لأجواء تلك المناطق ودعم حلفائهم.
فالتطبيع الإسرائيلي مع العرب وكل مجالات التعاون الأمني والاستخباري لم توفر ضمانات إضافية لتأمين الكيان الإسرائيلي، فالمخالب تقترب من الحدود، وانفجار المواجهة في أي من الجبهات قد يشتعل في أي لحظة، سواء كانت (إسرائيل) مبادرة ام غير ذلك، فالتقديرات الإسرائيلية بأن ما يزيد على (200) ألف صاروخ وُجِّهت من جبهات مختلفة على أهداف ومراكز حيوية وإستراتيجية، مثل (قواعد عسكرية، مطارات، قطاع الطاقة، المواصلات، منشآت سكنية) وغيرها من الأهداف، فالأراضي السورية واللبنانية والعراقية واليمنية والإيرانية وحتى في قطاع غزة هم قادرون على مهاجمة كافة الأماكن داخل (إسرائيل) في لحظة ما.
إن هذه البيئة التي يحيط بـ(إسرائيل) يجعلها أكثر بقعة مهددة في العالم، فإذا كانت التقارير تشير بأن احدى الجبهات قادرة على ضرب ما بين 3000 إلى 4000 صاروخ يوميا فكيف يمكن تخيل مشهد اشتعال مواجهة شاملة تنبعث من كل المناطق.