فلسطين أون لاين

"مفاوضات الحل الدائم".. تفكيك القضية إلى ملفات هامشية

يبدو أن السلطة الفلسطينية، بعد أن تيقنت بوصول تداعيات الرد التكتيكي على مشروع الضم عبر إعلانها «التحلل» من الاتفاقيات، إلى نهاياته بدأت تستجيب، بخجل، في الوقت الراهن، لنصيحة بعض العواصم العربية بألا تضيع فرصة الدعوة الأمريكية للمفاوضات، كما هي في صفقة ترامب -نتنياهو، للوصول إلى «دولة فلسطينية»، سقفها السياسي وحدودها الجغرافية، رسمت بيد لجنة أمريكية -إسرائيلية مشتركة.

النصيحة دعت السلطة للدخول فيما يسمى «الاشتباك التفاوضي»، وإحياء الجثة الهامدة اللجنة الرباعية الدولية مدخلًا لاستعادة الدعوة لاستئناف المفاوضات. وهو ما أقدمت عليه السلطة، حين كشف رئيس حكومة السلطة الفلسطينية، محمد اشتية، النقاب عن «البديل التفاوضي» الذي تقدمت به السلطة إلى الرباعية الدولية في رسالة نشرت مجلة «الحرية» في عددها الأخير نصها الكامل.

ووفقًا لمصادر مصرية موثوقة وواسعة الاطلاع، فإن السلطة تقدمت إلى جانب الرسالة المذكورة بطلب استئناف المفاوضات، من النقطة التي وصلت إليها عام 2008، أي مفاوضات أنابوليس، التي أحيتها يومها وزيرة خارجية بوش الابن، كوندوليزارايس، واختتمها رئيس حكومة دولة الاحتلال أولمرت بحربه الدموية ضد قطاع غزة نهاية عام 2008 ومطلع عام 2009.

المفاوضات.. أين.. وكيف؟

من يدافعون عن تمسك السلطة بالمفاوضات، يبررون ذلك أن الجانب الفلسطيني لم يتخلَّ عن خياره السياسي للوصول إلى حل للصراع مع (إسرائيل)، وأن المجلس الوطني، في دورته الأخيرة جدد الدعوة للمفاوضات في إطار مؤتمر دولي بموجب قرارات الشرعية، وبمدى زمني، محدد وبما يضمن للشعب الفلسطيني حقوقه الوطنية المشروعة في الدولة المستقلة.

غير أن ما جاء في قرارات المجلس الوطني شيء، وما يدور في الأجواء التفاوضية للسلطة الفلسطينية، وما جاء في الرسالة إلى الرباعية الدولية، وما تم إبلاغه إلى الدوائر الأوروبية بشكل رسمي، شيء آخر.

• مواقف السلطة في الدعوة للمفاوضات تتحدث عن مفاوضات تحت سقف قرارات الشرعية الدولية، وترفق بها مبادرة السلام العربية. ولا يحتاج المرء ليكون عبقريًا ليدرك مغزى الربط بين الشرعية الدولية وبين المبادرة العربية.

فالمبادرة فيها «إغراء» لـ(إسرائيل) بتطبيع علاقاتها مع الدول العربية مقابل انسحابها من الأراضي العربية المحتلة. لكن غاب عن بال المفاوض الفلسطيني أن الأحداث تجاوزت المبادرة العربية، وأن التطبيع بين (إسرائيل) و«معظم» الدول العربية، بات أمرًا واقعًا، وأخذ أشكالًا مختلفة وأن ما تكشف عنه الصحف الإسرائيلية في هذا المجال، من شأنه أن يقول إن مبادرة السلام العربية، باتت هي الأخرى في موت سريري، مثلها مثل الرباعية الدولية.

في السياق نفسه، تتضمن المبادرة العربية إشارة شديدة الوضوح للتخلي عن حق العودة للاجئين، حين دعت إلى «حل عادل ومتفق عليه» (مع إسرائيل طبعًا) لقضية اللاجئين. وحتى لا نتهم بالتحامل على المبادرة العربية، نعيد القارئ إلى نص رسالة السلطة الفلسطينية إلى الرباعية الدولية، في تأكيدها استعدادها لحل قضية اللاجئين بموجب النص الوارد حرفيًا في المبادرة العربية.

• كذلك تتحدث مواقف السلطة، ورسالتها إلى الرباعية الدولية لاستئناف المفاوضات، عن الاستعداد، في أي مفاوضات قادمة لتبادل متفق عليه للأراضي على حدود 4 حزيران 67. والتبادل هنا، كما هو واضح، يشير إلى الكتل الاستيطانية التي تنوي (إسرائيل) ضمها (بمفاوضات أو من دونها) في أي تسوية أو حل أيًّا كانت مواصفاته.

لذلك كان من الطبيعي أن يعلن وزراء خارجية فرنسا وألمانيا، ومصر والأردن، في بيان مشترك يوم 7/7/2020، عن استعدادهم للقبول بأي تعديلات في الحدود يتم التوافق عليها بين طرفي الصراع. في إدراك صريح وواضح أن «التعديل» في الحدود ما هي إلا شكل من أشكال الضم (الجزئي أو الشامل لا فرق) إنما بموافقة الجانب الفلسطيني، واستعداده المسبق للتنازل المجاني.

الجانب الفلسطيني يؤكد استعداده للعودة إلى المفاوضات وفق مبدأ «تبادل متفق عليه للأرض»، أي أنه يبقي باب الضم مفتوحًا، ولو مواربة. لكن من يضمن ما هي حدود التبادل هذه، وما هي آلياتها. وما دام الموضوع قد بات من حيث المبدأ قابلًا للتفاوض، إذًا هو أصبح مشروعًا وجزءًا من الحل، وفقًا لمعايير الجانب الفلسطيني نفسه.

• قضية ثالثة شديدة الأهمية ترد في الدعوة لاستئناف المفاوضات، هي قضية القدس التي يرد الحديث عنها غامضًا، يوحي بالاستعداد لحل ما، قد يقود إلى التخلي عن أجزاء من القدس الشرقية المحتلة بذريعة الاعتراف بالواقع، حيث نجح الاسرائيليون بإغراقها بالمستوطنين اليهود، وحولوا وجودهم فيها، خلال سنوات الاحتلال وخلال سنوات الاعتراف الأمريكي بها عاصمة لـ(إسرائيل)، أمرًا شديد التعقيد.

إلى جانب هذا كله، يحق لأي مراقب أن يسأل: هل تعتقد السلطة الفلسطينية حقًا أن ميزان القوى الراهن، يوفر الظروف لمفاوضات متوازنة في أسسها وآلياتها ومرجعياتها، وهل تعتقد السلطة الفلسطينية أن الجانب الإسرائيلي الذي يشعر الآن بأنه ازداد قوة، بفعل الدعم الأمريكي غير المحدود، وبفعل التحول الأمريكي الإستراتيجي، وبحيث باتت خطة عمل البيت الأبيض هي نفسها خطط عمل حكومة الاحتلال، هل تعتقد باستعداده لاستئناف المفاوضات وفقًا لرؤيتها. نعتقد أن نتنياهو قدم الجواب سريعًا، حين هاتف رئيس حكومة بريطانيا، الذي كان نشر في الصحافة العبرية مقالًا يرفص فيه الضم، ويدعو لحل عبر المفاوضات. جواب نتنياهو كان واضحًا: «نعم للمفاوضات، وفق مبدأ رؤية ترامب».

وهكذا نكون قد وقفنا أمام مشروعين لاستئناف المفاوضات:

• مشروع السلطة (إن جاز التعبير) يقوم على استعادة مفاوضات أنابوليس، أي تحت سقف أوسلو ومحدداته لمفاوضات الحل الدائم.

• مشروع نتنياهو، أي «رؤية ترامب» بكل عناصرها.

وفق هذا المنطق يصبح مطلوبًا من الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، الذي أعلن عن انهماكه بإحياء الرباعية الدولية لدعوة الطرفين إلى المفاوضات، ويصبح مطلوبًا في الوقت نفسه من المبعوث الدولي ملادينوف، الذي أعلن عن الهدف ذاته، أن يقنعا طرفًا ثالثًا (لماذا لا يكون الاتحاد الأوروبي وبعض العواصم العربية) لتقديم «رؤية ثالثة»، تجمع بين «رؤية ترامب» و«رؤية السلطة»، احتمال علينا ألا نستبعده من حساباتنا. فكثير من المؤشرات، الأمريكية والإسرائيلية والأوروبية والعربية، يحمل في طياتها مثل هذا الاحتمال.

الحل الدائم وتفكيك القضية الوطنية

المفاوض الفلسطيني يدعو لاستئناف المفاوضات بموجب اتفاق أوسلو، الذي وصلت مفاوضاته في تموز (يوليو) 2000 في كامب ديفيد 2 إلى الطريق المسدود، وبقيت تراوح مكانها، دون أي نتيجة للجانب الفلسطيني حتى أيار (مايو) 2014، في حين بقيت بيد الجانب الإسرائيلي غطاء سياسيًا، يتغطى به، وتحت سقفه، يمارس كل أشكال القمع، واغتصاب الأرض وتوسيع الاستيطان، خاصة وأن المفاوض الفلسطيني، نزع عنه صفته القانونية باعتباره دولة احتلال وعدوان وتمييز عنصري، وأسبغ عليه صفة بديلة استغلها إلى أبعد الحدود «شريكًا في عملية السلام»، في الوقت الذي يدرك فيه الجميع أن (إسرائيل) لا تعرف معنى للسلام إلا إذا كان في خدمة مصالحها الاستعمارية وأطماعها التوسعية.

ودون أي استخلاص ذي معنى من رحلة الفشل الطويلة والمرة والمدمرة، يبقى المفاوض الفلسطيني على وفائه لأوسلو، ومفاوضات أوسلو، والرباعية الدولية، ومبادرة السلام العربية، وتبادل متفق عليه للأرض، وحل متفق عليه لقضية اللاجئين.

إلى جانب هذا كله، وعلى خطورة هذا كله، لجأ المفاوض الفلسطيني إلى تفكيك القضية الفلسطينية، من قضية شعب تحت الاحتلال، له الحق الكامل في تقرير مصيره، وقيام دولته المستقلة وحق لاجئيه بالعودة، إلى مجرد «قضايا تفاوضية»، مفصول بعضها عن بعض، بحيث جرى تهميشها، وأفرغت من مضمونها القانوني والسياسي، وجردت من مرجعيتها السياسية، وتحولت إلى «قضايا» تفاوضية، مفتوحة على الاحتمالات المختلفة. منها على سبيل:

الأرض: ما دامت مرجعية المفاوضات هي الشرعية الدولية بما في ذلك القرار 242 + 338، كما يقول الجانب الفلسطيني، فلماذا إذًا التفاوض على رسم حدود جديدة، ولماذا لا يكون التمسك بالأرض الفلسطينية المحتلة باعتبارها قضية متكاملة وجزءًا لا يتجزأ من القضية الفلسطينية، لا ينظر إليها منفردة، بل كرزمة واحدة لا مقايضة فيها بين حق وآخر، ولا مساومة فيها على هذا الحق أو ذاك.

تحويل قضية الحدود إلى قضية تفاوضية، تحت مبدأ تبادل محدود للأرض، يفتح الباب أمام تنازلات غير محدودة، ويجعل من الأرض الفلسطينية موضوعًا تفاوضيًّا، في ظل ميزان قوى مختل للجانب الإسرائيلي الممسك بالأرض، بقوة السلاح، وبقوة الاستيطان، يفشل في مقاومتها قوة المنطق، وقوة القانون، مجردتين من «القوة الميدانية»..

المياه: لا شك أن طرح قضية المياه للتفاوض، ما هو إلا مدخل للاعتراف لأن قضية المياه قابلة للمساومة. ولا يحتاج المرء (مرة أخرى) ليكون عبقريًا ليدرك أسباب إصرار الجانب الإسرائيلي على وضع المياه على جدول الأعمال. المياه، كما هي الأرض، بموجب اتفاق أوسلو، هي قضايا متنازع عليها يتم التفاوض حولها للبت بمصيرها. الخطيئة الأصلية التي ارتكبها المفاوض الفلسطيني بالقبول بهذا التعريف للأرض والمياه، هي الخطيئة التي أدت إلى ما أدت إليه من كوارث ونكبات، آخرها كارثة صفقة ترامب -نتنياهو. لكن، كما يبدو، فإن المفاوض الفلسطيني، وقد بات أسير قيوده، وأسير التزاماته، وأسير مصالحه الفئوية، ما زال عند حدود موقفه من الأرض والمياه، كما وردت في اتفاق أوسلو، وما زال على استعداد للتفاوض عليهما، وأي تفاوض معناه التنازل هن جزء منها للجانب الإسرائيلي، الذي اكتسب الحق في هذا الجزء باعتراف المفاوض الفلسطيني نفسه.

الأمن: لم تعد قضية الأمن سرًّا من الأسرار. فالجانب الفلسطيني وافق وأكد، وكرر موافقته، وكرر تأكيده على الحل التالي:

- «دولة فلسطين» (بحدود وأرض منقوصة) منزوعة السلاح، أي تحت الهيمنة الأمنية لدولة (إسرائيل).

- شرطة فلسطينية قوية التسليح لضبط الأمن داخل حدود «الدولة الفلسطينية»، ومكافحة كل أشكال الإرهاب، عملًا باتفاقات عقدت مع 83 دولة، بما في ذلك المخابرات الأمريكية. أي بموجب تعريف المخابرات الأمريكية للإرهاب، وبما يشمل ضمنًا، المقاومة الفلسطينية. لذلك لا غرابة أن تكون السلطة حريصة على التأكيد على «المقاومة السلمية» وعلى رفضها كل أشكال «العنف» و«الفوضى» (تعريفها للمقاومة).

- وجود طرف ثالث (الحلف الأطلسي) إلى جانب الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، على المعابر الفلسطينية، برية وبحرية، (وجوية إن وجدت) اعترافًا من «الدولة» الفلسطينية بحق إسرائيل بأن تكون شريكًا، والطرف الثالث حكمًا، وشريكًا في آن، لفرض الرقابة على الحدود الفلسطينية، للإشراف على حركة العابرين، وتوثيق «الإرهابين» منهم وهم في حسابات إسرائيل والحلف الأطلسي بالآلاف، خاصة من تمت الإشارة إليهم في «صفقة القرن»، أي اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وسوريا، فهؤلاء هم أجيال المقاومة المسلحة (أي بتعريف أمريكي إسرائيلي «أجيال الإرهاب» الفلسطيني). وكذلك الإشراف على من يسمح لهم «بالعودة» إلى مناطق السلطة الفلسطينية من اللاجئين الفلسطينيين، حتى لا يتكدسوا في مناطق «الدولة» ويتحولوا إلى عبء على عاتقها، ويتحولوا، في السياق، إلى مصادر «شغب»، أو أن يدفعهم الحنين إلى العودة إلى «البلاد» وتستعيد حركة اللاجئين حيويتها، خلافًا لما يتوجب الاتفاق عليه، أي إغلاق ملف الطلبات بين الطرفين بعد التوقيع على قضايا الحل الدائم.

متل هذه المفاوضات، رغم الادعاء بأنها ستستند إلى مرجعية الشرعية الدولية (242 + 338) ومبادرة السلام العربية، فإنها مفاوضات مفتوحة على كل الاحتمالات السلبية، لأن مرجعيتها الأساسية أن الأرض، والمياه، أمور متنازع عليها، فضلًا عن أن (إسرائيل) ترفض الاعتراف بالدولة الفلسطينية وترفض الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني بتقرير المصير، عملًا بالشرعية الدولية مواثيقها وثوابتها وقراراتها ذات الصلة.

وقبل أن نختم دعونا نستعيد ما قاله الفيلسوف الروماني العظيم باسبليوس ريناتوس:

«إن أردت السلم فاستعد للحرب».