قبل حوالي عشرين سنة كانت مأساة شبيهة بهذه المأساة، وكنت شاهداً عليها, إذ كنت في حينها في ما يسمّى مشفى الرملة وهو لا علاقة له بالشفاء البتة وإنما هو تكريس المرض للتعايش معه ومضاعفة أوجاعه وتحويل المرضى إلى مختبر تجارب لشركات الأدوية الإسرائيلية ، كان يومها الشهيد رزق العرعير قد قضى ستة وعشرين سنة ونصف في معتقل الآلام هذا، ثم خضع لعملية قلب مفتوح زادت من آلامه وأدت الى استشهاده ليخرج محمولا على الاكتاف لأهله، وصلنا من غرفة العمليات عصرا وكأنه قد جاء من مشرحة عملت مباضعها في جسده عملها، أو أنه كان في معركة من العصور القديمة أسلحتها السيوف والخناجر، كان شاحبا ترى الموت في عينيه، أنهكته الجراح ولم نسمع سوى أناته التي كانت تخرج رغما عن كبريائه التي يحاول جاهدا أن لا تخرج منه كي لا يعطي عدوّه فرصة للشماتة به، واضح أنه بحاجة الى المزيد من الاشراف الطبي التخصصي المباشر إلا أنهم ألقوا به الينا، ولسان حالهم يقول خذوه ليموت بين يديكم، جاءنا عصرا فأغمي عليه مع غروب شمس ذلك اليوم، أخذوه عندهم ثم بعد دقائق طلبوا شرشفا أبيض وهذه علامة على وفاته وانتهاء أجله دون أن نعرف ماذا فعلوا به وهو وحيد عندهم دون رقيب أو حسيب.
وعلى ذات الطريقة تأتي ذات النهاية بطريقة متطابقة مع نهاية الشهيد سعد الغرابلي، رقم 224 من شهداء الحركة الاسيرة، ولا ينبغي أن نذكر الرقم هكذا جزافا فلكل عالمه وحياته وأهله وذووه وكل منهم قضية قائمة بذاتها، هم الذين قضوا نتيجة جريمة تسمّى الإهمال الطبي مع سبق الإصرار ومع ممارسة طقوسها السادية كاملة.
سعد الغرابلي قضى نحبه بعد ستة وعشرين سنة من الاعتقال الغارق في سجنين: فسجن الإهمال الطبي يُضاف الى سجنه وعزله ليصبح في سجنين في آن واحد معا، ولا يدري أحد حجم الألم والقهر والمرارة التي يغرق فيها الأسير المريض، لقد كتبت عنها منذ زيارتي تلك من خلال الشواهد الحيّة التي كانت في حينها في مشفى الرملة، وسمّيته مدفن الاحياء لأنهم بالفعل يعيشون حالة الدفن وهم أحياء، تدفن مشاعرهم وآمالهم وطموحهم وأدنى حقوقهم الإنسانية، ولا يبقى منهم شيء خارج عملية الدفن التي يتقنون صناعة قبورها وزج المرضى فيها دون أن يرفّ لهم قلب. ومن بعض تجليّات الإهمال الطبي الممنهج (بكل موضوعية وهي على الغالب بعيدة عن الاستثناء الذي قد يحصل أحيانا) الاتي:
- لا يُشخّصون المرض في بداياته وإنما طبعهم المماطلة ليبلغ المرض مداه في جسد المريض، فالفحوصات الطبية أو صور الاشعة التي يستطيع المريض الوصول اليها في أيام خارج السجن تستغرق الأسير الانتظار لسنوات، وفي حالات كثيرة لا يصلون الى التشخيص الصحيح للمرض، فيصرفون له أدوية تجريبية من شتى الأنواع قبل أن يحدّدوا المرض الذي يعاني منه.
- غالبا تأخذ الادوية طريقها الى تسكين الألم بدل أن تذهب الى معالجة أسبابه، فالدواء الذي يعطى للجميع ولكل الامراض هو الاكمول، بينما يأخذ العلاج طريقه لمعالجة جذره في عيادة الاسنان حيث التوجه الدائم الى خلع الضرس وقد يخلعون التي حوله قبل ان يصلوا اليه أخيرا.
- بيئة السجون بيئة مرض وعدوى من حيث التهوية حيث الاكتظاظ في غرف مغلقة الا من نوافذ تقترب من السقف ومليئة بالعوارض الحديدية، حارّة صيفا وشديدة البرودة شتاء دون توفر أي نوع من أنواع التدفئة، عدا عن أن غرفة السجن يضطر الاسرى الى طهي طعامهم فيها، وفيها الحمام والمطبخ في زاوية واحدة، وساعات الخروج للساحة والتعرض للشمس غير كافية عدا عن ان الساحة غير مؤهلة ولا تصلها أشعة الشمس الا وسط الظهيرة، باختصار بيئة حاضنة للأمراض والاوبئة. ومواد التنظيف محدودة ولا تكفي لتوفير النظافة المطلوبة. وهناك سجون ذات جدران مليئة بالرطوبة كونها قديمة من زمن الانتداب البريطاني.
- الطعام في السجون غير صحّي على الاطلاق فلحومه زرقاء تشمئز منها النفوس ودجاجه الذي يأتي مرّة في الأسبوع رائحة نتنة تزكم الانوف فيضّطر الاسرى لإجراء عمليات تجميلية لها كي تصبح سائغة للأكل، وقد يأتي على شكل نقانق مليئة بالمواد الحافظة المسرطنة أو سمك مطحون لا تدري مكوناته الاصلية، والخضروات يأتي بها متعهّد الخضار للسجون بعد أن تكون قد أوشكت على التلف وانتشار الفطريات فيها، أكلهم يأتي بالمرض ولا تتوفّر فيه أدنى المقومات الصحية. بل هي وصفة للأكل المميت والمسرطن بكل الأحوال.
- اضف الى ذلك أجهزة التشويش التي تستجلب السرطان من قبرص، هذه الأجهزة ثبت انها مسرطنة ومع ذلك تصرّ عليها إدارة السجون إصرار السباع الضارية للافتراس.
في السجون الإسرائيلية نجد أنفسنا بالفعل في مدافن الاحياء دون أي مبالغة وهي وصفة دقيقة لتكون محاضن للأمراض كافّة، خاصة السرطانات والامراض الصدرية والقلبية والأمراض الباطنية والجلدية.
ومع ادراكنا لحجم الألم الذي يعترينا ويعتري أهل الأسير عندما يخرج من السجن محملا على الاكتاف أو أن يحوّل الى ثلاجة الموتى ليقضي فيها بقية حكمه، مع إدراكنا لكلّ هذه الالام للأسير وأهله والتي لا حدود للإحاطة بها فإن علينا أن نتحرّك بقوة وعلى الصعد كافّة الدولية والمحلية لنعرّي هذا الاحتلال ولنقدمه بصفته مجرما مع سبق الإصرار لكل المحاكم الدولية.
سعد الغرابلي الشهيد الأخير ولن يكون آخرا إلا إذا تحرّكنا بالشكل الصحيح والمطلوب فعلا.