فلسطين أون لاين

"انتزعوا جلدي مني يوم انتزعوا حجابي"

تقرير خديجة خويص.. مرابطة لا تمل طريق الدفاع عن الأقصى

...
106337691_606375203617214_9166816913797457664_n.jpg
غزة/ يحيى اليعقوبي:
  • الإبعادات والاعتقالات زادتني إصرارًا وقوت شخصيتي وجعلتني أكثر صلابة
  • اعتقلني الاحتلال 6 مرات واستدعاني 28 مرة ..  و9 قرارات منع من السفر
  • الاحتلال يعيد اعتقالي يوم انتهاء مدة الإبعاد ليسلم لي قرارًا جديدًا
  • رفضت كل عروض الاحتلال لأن الأقصى لا يقبل المساومة ولا التقسيم
  • لم أشهد فتح "باب الرحمة" لكن ثمار عملي ظهرت حينها
  • كنت أمام السجانين دون حجاب أو عباءة وصرخت: وا معتصماه!

"مرت عشرة أيام على اعتقالي في زنزانة عزل انفرادي في سجن الرملة، كنت بين صلاتي وقرآني ودعائي ومناجاتي وبكائي لله أن يرفع هذه المحنة، كنت مثالًا للهدوء والاتزان في السجن، خرجت لجلسة محاكمتي الخامسة وعندما عدت للسجن ناداني مسؤوله مهددًا: "من اليوم فصاعدًا يحظر عليك ارتداء الحجاب والجلباب داخل القسم".

- لم أعرف حينها بأي لغة أخاطبه لأفهمه أن ذلك غير معقول أبدًا، فلم تسعفني أي كلمة وأنا القوية دومًا، ولا أبكي أمام سجاني، حتى لا يشمت بي وحتى لا ينتشي بقوته، مع ذلك كله لم أتمالك دموعي ذلك اليوم، بكيت أمامه بحرقة: لا يمكنني أن أفعل ذلك، ولن تفعل أنت!

 أوصلني إلى باب القسم، وأمر السجانة أن تنزع حجابي فنزعت، وطلب مني أن أخلع جلبابي وإلا خلعوه بالقوة".

أذيال القهر

المرابطة المقدسية الصلبة خديجة خويص (43 عامًا) أمام قسوة السجان، أجبرها الأخير على خلع جلبابها ثم أدخلوها زنزانتها تجر أذيال القهر، انفجر بركان حزنها، حاولت تمالك نفسها لكن دموع القهر كانت تسيل رغمًا عنها، يراها سجانوها وهي التي بلغت الأربعين ولم تخلع حجابها قط منذ كانت في السابعة من عمرها، ولم يرها أي أجنبي دون جلبابها، بكت كما لم تبك من قبل، صرخت، استمرت بالبكاء، نادت المعتصم وصلاح الدين وكبّرت، فلم تجبها سوى جدران الزنازنة بصدى الصوت.

تلك التفاصيل احتفظت بها في سجل الألم داخل ذاكرتها، تعيد نبشه من جديد وهي تفتح قلبها لصحيفة "فلسطين" مارة على مواقفها التي واجهتها في طريق دفاعها عن الأقصى: "يومها بكيت قرابة الساعتين، صليت بلا حجاب أو جلباب ودعوت الله أن يلقي علي النوم حتى لا ينفطر  قلبي، فنمت حتى الفجر ليدخل سجانون لأخذ العدد، وليعود البكاء وأنا أخبئ رأسي بين يدي".

 ولما جاء الظهر، دخل سجانون ذكور لتفتيش الزنزانة، "انفجرت باكية، حاولت إقناعهم أن حجابي وجلبابي جزء مني، وانتزاعهما كما انتزاع جلدي وسلخه، ولا تصح صلاتي دونه، ولا يجوز أن يراني الرجال دونه" تستذكر.

"يومها نقلت من زنزانة إلى أخرى، ولا أعلم السبب، ظننتها أفضل لكن كانت مترين بمترين، ومياه المرحاض تسيل على أرضيتها، رائحة كريهة، الصراصير الميتة تحت الفرشة، كنت بلا غطاء، وكاميرات ترصد مكان النوم، والمرحاض عليه باب زجاجي شفاف منخفض يصف ما خلفه، وكانت الزنزانة مقابل غرفة السجانين وكأنها زنزانة في مرحاض" كان هذا يومًا قضته من 23 يومًا أمضتها في سجن الرملة.

"توضأت، صليت العشاء بلا حجاب ولا جلباب، ولا سجود، لأن الأرض هناك كانت نجسة".

عند الخامسة فجرًا أعطاها السجانون جلبابها وحجابها لتخرج بهما للمحكمة، وكأن الروح ارتدت إليها، شعرت بالاطمئنان، تتابع بصوت المتألم: "وصلت إلى المحكمة منهكة من البكاء المتواصل، والسهر الإجباري بسبب صوت مياه المرحاض، فبدوت شاحبة حزينة كئيبة على غير العادة، يومها اجتمع قهر الدنيا كله في ملامح وجهي وتعابيره".

انتزاع حق

تضع النقطة الأخيرة على ما حدث هنا: "لما ترافع عني المحامي أمام محكمة الاحتلال نجحت في انتزاع أمر بعدم انتزاع حجابي، فعدت من المحكمة ليعاودوا قهري وينتزعوا حجابي مرة أخرى، لكنني قررت انتزاع حقي ولو بأسناني، صرخت وكبرت أربع ساعات حتى جاؤوا بمدير السجن، وأريته قرار المحكمة فاضطر إلى الالتزام به".

تعلق على تلك الذكرى التي لم تمحها الأيام: "كان الاعتقال في شهر تموز (يوليو) 2017م، ووجدت نفسي بسجن الرملة بين عنبر يضم 13 زنزانة كل زنزانة تضم مجرمة أو مدمنة مخدرات، وقاتلة، وكنت من الصباح حتى المساء لا أسمع سوى السباب والألفاظ البذيئة".

تصف ظروف أسرها: "قبل أن أحصل على قرار من محكمة الاحتلال، انتزعوا مني الجلباب ثلاثة أيام ولم أستطع استعادته، وعادوا لانتزاعه انتقامًا لأني شكوتهم، كانوا لا يعطونني إياه إلا لأخرج للمحكمة، حتى غطاء سرير لأستر نفسي لم يكن متوافرًا، ونقلت إلى زنزانة سيئة لا أعرف مكان القبلة ولا وقت دخول الصلاة، كنت مكشوفة أمام الحراس، يرونني دون حجاب أو عباءة، لا يوجد ماء طهارة، الماء المسموح به ساخن جدًّا، لا إمكانية للسجود، صوت مياه المرحاض طوال الليل تصخ الأذان".

تشدها ذاكرتها لحوارها مع السجانين، تستعيد ذلك الموقف: "في لحظة كنت أصرخ أريد حجابي، ليأتني الرد منهم: "إيش بدك في الحجاب؟!، صلي بقلبك"، أحار أمام بشاعة ردهم: (بدي أستر نفسي، حرام أبين أمامكم)".

لكن رد السجانين كان مستفزًّا: "ما تقلقي، إحنا مش مطلعين عليك"، واصلت الصراخ: "ممنوع لأي شخص انتزاعه ولا أي قانون بالدنيا يسمح لكم بانتزاع حجابي رغمًا".

"أصعب شيء أن تجبر على انتزاع حجابك أمام مدير السجن" -تقول والألم يعتصر صوتها- "وأنا من عائلة متدينة حافظة للقرآن الكريم".


رحلة في رحاب الأقصى

رحلة خويص في رحاب المسجد الأقصى بدأت مبكرة، إذ درست الابتدائية بمدرسة رياض الأقصى، والثانوية بالمدرسة الإشرافية ثلاث سنوات، عاصرت مذبحة الأقصى الأولى في بداية التسعينيات والثانية عام 1996م، وكان أحد الشهداء شقيق صديقتها بالمدرسة، فكانت معظم أيامها بالأقصى، حتى بدأت الرحلة تأخذ منحى مختلفًا عام 2013م.

تعرفنا ضيفة هذا الحوار أكثر إلى طبيعة تلك المرحلة، فتقول: "حصلت على إجازة من عملي وعدت للارتباط بمصاطب العلم لأكون معلمة تفسير للقرآن والتجويد الذي كانت ترعاه الحركة الإسلامية، ومن هنا بدأت عيون الاحتلال تلاحقني".

توقفت قليلًا، مستذكرة تلك الأيام: "كنا في أثناء الحلقات وحينما يقتحم المستوطنون الأقصى نتوقف عن العلم، ونذهب ونستمر في التكبير حتى نخرجهم من الأقصى، وكانت إحدى التهم الموجهة إلي، وكان أول اعتقال لي في 15 أيلول (سبتمبر) 2014م، وسلم لي قرار إبعاد عن الأقصى 15 يومًا، ومن يومها صرت أعتقل وأبعد ولا أدخل الأقصى إلا قليلًا، يعاود الاحتلال اعتقالي في يوم انتهاء مدة الإبعاد لتسليم قرار جديد لي، وراوحت ما بين إبعاد عن الأقصى والأروقة المؤدية إليه، وإبعاد عن البلدة القديمة والضفة الغربية".

ملاحقة مستمرة

تظهر أرقام اعتقالها وإبعادها حجم ملاحقتها، فهذه المقدسية اعتقلت ست مرات، أمضت في مرتين 15 يومًا، وأخرى 23 يومًا في سجون الاحتلال، وزادت الاستدعاءات على 28 استدعاءً، وكان هدفها تسليم قرارات الإبعاد، فقد سلم لها الاحتلال تسعة قرارات منع من السفر وحبس منزلي مرتين، وإبعاد ومنع من دخول الضفة الغربية مرتين كل ستة أشهر، وإبعادها ضمن "القائمة الذهبية" التي يسميها الاحتلال (القائمة السوداء) مدة عامين، وهي مبعدة اليوم ستة أشهر جديدة عن الأقصى تنتهي مع نهاية العام الجاري.

لماذا منعك الاحتلال من دخول الضفة الغربية؟ "الحُجة أنني أقوم بنشاطات في الجامعات" ترد، متوقفة عند حياتها آنذاك: "منعوني من دخول الضفة لكون أهل زوجي يعيشون فيها، ومنع هو من دخول القدس، وبقينا مشتتين (...) أضاعوا فصلًا جامعيًّا كاملًا فوقتها كنت أدرس الماجستير بجامعة الخليل، ولم يكن هناك نقطة التقاء مع عائلة زوجي".

قبل إصدار قرار المنع محقق الاحتلال يخوض جدالًا أخيرًا معها: "المرأة مكانها بيتها".

ترد خويص وهي مقيدة في غرفة التحقيق: المسجد الأقصى بيتي الأول، إذا ضاع البيت الأكبر ضاع كل ما دونه".

استمر تهديد محقق الاحتلال: "أنت تهملين بيتك، سنضطر إلى سحب الأولاد منك وإعطائهم لعائلات يهودية".

أمام صمت خويص عن التهديد زاد في عرضه: "توقفي عن هذا الطريق، ونعيد زوجك لدخول القدس ونسمح لك بالسفر".

لكنها حسمت موقفها، فصمت هو: "الأقصى لا يقبل المساومة ولا التقسيم ولا تقع عليه العروض، وإننا لن نمل هذا الطريق".

عايشت خويص هبة "باب الأسباط" في يوليو 2017م، كانت تقضي يومها طوال 14 يومًا أمام الباب، كانت الأحداث ترافقها في أحلامها، أما في هبة باب الرحمة عام 2019م فكانت مبعدة عامًا كاملًا، وكان الإبعاد بحجة مساهمتها بحملة التوعية لباب الرحمة، وتحريض الناس على القدوم للأقصى وشد الرحال إليه، في وقت الهبة أوشك الإبعاد أن ينتهي، لكنهم جددوه ستة أشهر أخرى.

يبتسم صوتها: "لم أشهد فتح قاعة مصلى باب الرحمة، لكن ثمار عملي طوال الأعوام الماضية ظهرت حينها".

عند خويص الصراع في الأقصى "صراع عقيدة"، ومبدأ، وليس صراعًا سياسيًّا، تستند إلى هذه العقيدة وتدافع عنها، أن الأقصى والأرض المقدسة حق خالص للمسلمين، تقول: "الإبعادات والاعتقالات زادتني إصرارًا على استرجاع حقنا المسلوب، وقوت شخصيتي وجعلتني أكثر صلابة، على أن أستمر بالطريق نفسه، وكنت مدة الإبعاد أمضي وقتي أمام أبواب المسجد الأقصى أو عند أقرب نقطة للصلاة، أفطر في رمضان على الأبواب، في كل الأحوال، سواء أكانت الأجواء حارة أم ماطرة".

بطاقة تعريف

خديجة خويص (43 عامًا) مرابطة تسكن ببلدة الطور في شرقي القدس متزوجة ولديها ثلاث بنات وولدان، حاصة على بكالوريوس في القرآن والدراسات الإسلامية من جامعة القدس، وماجستير في تفسير القرآن، معلمة منذ 20 عامًا، حافظة للقرآن الكريم بسند غيبي متصل عن النبي ﷺ، المطالعة والكتابة جزء أساسي من حياتها.

 

 

المصدر / فلسطين أون لاين