يريد الاحتلال تحويل الفلسطينيين إلى أقلية صغيرة معزولة، تعيش داخل دولة اسمها (إسرائيل)، ويريد تحويل السلطة الفلسطينية إلى «روابط قرى»، أي مجرد إدارات بلدية صغيرة ومحدودة، تقوم برعاية وتنظيم الخدمات المقدمة لــ"الأقلية الفلسطينية"، أما فصائل المقاومة فيريد الاحتلال ترويضها وتحويلها إلى تجمعات حزبية منزوعة الدسم، ليس لها أي تأثير سوى أنها منابر للتعبير عن الرأي وإصدار البيانات.
هذا هو جوهر «صفقة القرن»، التي يقوم الأمريكيون والاسرائيليون بتسويقها على أنها «مشروع سلام»، وهي في الحقيقة مجرد مشروع لتصفية ما تبقى من القضية الفلسطينية، بعد سنوات طويلة من الجمود السياسي، الذي أعقب اغتيال الزعيم الراحل ياسر عرفات، وبعد سنوات من قيام الدبابات الاسرائيلية بالتهام اتفاقات أوسلو، عبر اجتياح المناطق الفلسطينية، وإلغاء التصنيفات الثلاثة: ألف وباء وجيم.
قرار الضم الإسرائيلي لأراضي الضفة الغربية وغور الأردن يندرج في هذا الإطار، فهو عملية تغيير للأمر الواقع على الأراضي المحتلة، بما يصب في المصلحة الاسرائيلية، كما أنه يأتي في سياق التنفيذ الجبري وبالقوة لصفقة القرن، وبدون الالتفات إلى أي مرجعية دولية أو تفاوضية أو سياسية، فضلاً عن أنه انتهاك بالغ الخطورة لكافة الاتفاقات التي وقعها الفلسطينيون والأردنيون مع إسرائيل، خلال العقود الثلاثة الماضية. خلال السنوات الأربع الأخيرة، أي خلال فترة وجود الرئيس دونالد ترامب في البيت الأبيض، نفذ الاحتلال الاسرائيلي أكبر عدوان استراتيجي على الأرض الفلسطينية، حيث قام بجملة إجراءات ليس لها سوى نتيجة واحدة وهي تغيير الوضع على الأرض الفلسطينية بشكل كامل، وبما يضمن التفوق النهائي للإسرائيليين، إضافة إلى أن هذا التغيير يجعل من المستحيل، أو شبه المستحيل إقامة دولة فلسطينية في المستقبل، حتى إن وصل إلى الحكم في تل أبيب من يقبل التفاوض ويقبل بفكرة حل الدولتين.
خلال سنوات قليلة انتزعت (إسرائيل) اعترافا أمريكياً بالقدس عاصمة لها، وقامت بضم الجولان، والآن تقوم بضم غور الأردن، ومساحة واسعة من الضفة الغربية التي هي أرض محتلة، بموجب كافة قرارات الشرعية الدولية والقانون الدولي، كما أحدثت تغييرات في القدس والمسجد الأقصى، بما يتناقض مع الولاية الأردنية المعترف بها في اتفاقية «وادي عربة»، وبينما كانت تقوم بكل هذه الإجراءات كان آلاف المستوطنين الإضافيين يتدفقون على أراضي الضفة الغربية لالتهامها، حتى تم العام الماضي تسجيل أكبر عدد من المستوطنين داخل الضفة منذ احتلالها عام 1967.
واقع الحال أن الإسرائيليين استخدموا القوة لانتهاك كافة القوانين والقرارات الدولية، كما انتهكوا بالقوة كافة الاتفاقات التي وقعوها مع العرب، بما يعني أنهم لم يعودوا يسلكون التفاوض ولا يقبلون به طريقاً، وإنما يمتهنون القوة القاهرة لتحقيق ما يريدون على حساب كل الحقوق العربية. كما أن اللافت في أعمال العدوان الاسرائيلي الأخيرة، أنها لا تستهدف الفلسطينيين فقط، فقرار الضم الذي تعتزم حكومة اليمين المتطرفة في تل أبيب تنفيذه، والإجراءات التي تم فرضها في القدس المحتلة، إضافة إلى أن «صفقة القرن» تقوم على أساس إعادة تعريف اللاجئ الفلسطيني، وطمس حقه في العودة، كل هذه الأشياء تشكل عدواناً مباشراً على الأردن، وتهديداً لمصالحه، كما تشكل انتهاكاً لمعاهدة السلام الموقعة عام 1994، ما يعني أن العدوان الإسرائيلي يتوسع، وأن الفلسطينيين ليسوا وحدهم الضحية.
الحالة الفلسطينية اليوم أشبه بما كانت عليه صيف عام 2000، عندما اكتشف الرئيس عرفات أن (إسرائيل) تريد تعطيل المشروع الوطني الفلسطيني وطمس الوجود والهوية الفلسطينية، يومها عاد عرفات من «كامب ديفيد» في يوليو واندلعت الانتفاضة الشعبية بعدها بشهرين.
والخلاصة، أن الفلسطينيين ربما يكونون على أعتاب انتفاضة جديدة، خاصة أننا أمام جيل جديد من الفلسطينيين الذين ولدوا بعد انتفاضة الأقصى، وأهم ما في هذه المواجهة أنها ستكون الفاصلة والكاشفة بالنسبة للأطراف العربية، التي سيظهر جلياً من منهم يدعم الحق الفلسطيني ويكترث بالقدس والمسجد الأقصى وما حوله من أرض عربية.
القدس العربي