لم تصبر دولة الإمارات، حتى ينجح رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، في تمرير ضم أراض في الضفة الغربية، بتجزئته، ومَرْحَلته، مثلا، أو حتى ينجح في كيفية إخراجه الخطوة المُقحَمة التي يعزم عليها، إخراجًا يسمح لها بجرعاتٍ أكبر من التطبيع، أو بتحالُف أعمق. كما لم تلتزم بما دعا إليه سفيرُها في الولايات المتحدة يوسف العتيبة، في مقالته في صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية، وحاول فيها أن يبدو، وكأنه، (ومن منطلق الصديق)، يحبِّذ فسح المجال للتطبيع الإماراتي والعربي، وعدم السماح للضمّ الاحتلالي للأغوار والمستوطنات بإعاقته، أو تعكير أجوائه؛ فهل تراجع نتنياهو عن الضم، حتى تنخرط الإمارات بخطوةٍ جديدةٍ، معلنة، في التطبيع؟!
علمًا أن ذلك "الاشتراط"، على ظاهريته، يضمر قبولًا بما اقترفته دولة الاحتلال من جرائم فادحة قبله؛ من نقل السفارة الأميركية إلى القدس، ومن التنصُّل من استحقاقات المرحلة الانتقالية التي عليها تنفيذها، وفق اتفاقات أوسلو، ومن جرائم متجدِّدة، يوميًّا، في وقائع احتلالية على الأرض والإنسان الفلسطيني، ومنها ترك الشاب أحمد عريقات ينزف، حتى الموت، خمسين دقيقة، على حاجز احتلالي بذريعة محاولته دهس جنود، من دون أيّ إثبات لذلك، بل الدلائل على عكسه. وقبله بفترة قريبة إعدام الشاب إياد حلّاق، في القدس، وهو من ذوي الاحتياجات الخاصة.
جاء ذلك التعجُّل، أو التلهّف، الإماراتي، في صورة إعلان، من وكالة أنباء الإمارات الرسمية، عن إطلاق شركتين من القطاع الخاص الإماراتي، وشركتين إسرائيليتين "عدّة مشاريع مشتركة"، في إطار الجهود لمكافحة فيروس كورونا. هكذا أرادت الإمارات أن يكون السياق، عالميًّا، وإنسانيًّا، ومُلِحًّا، كأنها تقول إن ذلك السياق يتجاوز الخلافات الصغيرة، بين العرب والمحتلين. فقد انضافت، بفضل وباء كورونا، ذريعة أخرى للتطبيع، غير محاربة الإرهاب، وغير التصدّي للتوسُّع الإيراني، إذ محاربة الإرهاب يمكنها أن تتحقَّق في سياق دولي، وكذا مواجهة النفوذ الإيراني، علمًا أن العلاقات الإماراتية، وبالذات التجارية، لا تسمح بافتراض مواجهة فعليّة.
هل فعلًا العلم والإنسانية هما الدافع، هذه المرّة؟ هل عَدِمت الإمارات دولًا متقدِّمة علميًّا وطبيًّا يمكنها التعاون في البحوث الطبية؛ لخدمة الإنسانية؟ وهل هذه الإنسانية الطافحة لا يمكنها أن تُبصر الخطر المحدق على الوجود الفلسطيني، في أرضه؟ والخطر الوجودي الذي يهدِّد مقدَّساته ومُقدَّراته؟ هذا التهديد المُدان، في القانون الدولي، والإنساني. وبعد هذا الانخراط الإماراتي العملي في علاقاتٍ معلنةٍ مع إسرائيل، ما الذي يضمن للإنسان العربي أنّ الأدوار التي تقوم بها الإمارات، في الأزمات والصراعات العربية والإقليمية، ليست تجري بالتنسيق مع كيان الاحتلال، ووفق مصالحه؟
كان الموقف العربي الرسمي المعلَن أنَّ الدول العربية لن تقبل بما لا يقبل به الفلسطينيون. والآن تبدو الأخبار عن ضغوطٍ من أطراف عربية وخليجية على السلطة الفلسطينية، ورئيسها محمود عباس؛ لقبول "صفقة القرن" الهادفة إلى تصفية القضية الفلسطينية، أكثر قابلية للتصديق، وكذلك الحديث عن تفضيل الإمارات قيادة فلسطينية بديلة (تفاخر العتيبة في مقاله بأنه كان أحد ثلاثة سفراء عرب، في البيت الأبيض، عندما كشف الرئيس ترامب عن "الصفقة"). والمؤشّرات أن الإمارات كانت تتمنّى التحلُّل من هذه العقبة الفلسطينية؛ لتدخل في علاقاتٍ واسعةٍ ونشطة، وعلنية، مع إسرائيل. أَمَا وأنَّ السلطة الفلسطينية أحرجت الإمارات، أخيرا، حين رفضت مساعداتها الطبية الآتية من نافذة التطبيع، مع الاحتلال، وبالتنسيق معه، لا مع الفلسطينيين، وأمَا وأنَّ السلطة صارت تتجه، وَفْق تصريحات متكرِّرة إلى نقطة اللاعودة، بالتهديد بتحميل الاحتلال مسؤولياته، بوصفه قوة احتلال، سواء أكان الضمُّ المُزمَع، كليًّا، وفوريًّا، أم جزئيا، ومُقَسَّطًا؛ ما يعني حلّ السلطة، فإن الإمارات قرَّرت حسم الأمر؛ بأن مسارها التطبيعي، أو التحالُفي مع دولة الاحتلال، لم يعد مرتهِنًا بتطوُّرات القضية الفلسطينية، فدولة الاحتلال دولة طبيعية، بحدّ ذاتها، بل متميزة وجاذبة للتقارُب المباشر والتعاون، فهي على حدّ تعبير العتيبة، "فرصة"، وليست خطرًا.
من المستغرب، حقًّا، أن تتقدَّم المواقف الأوروبية وغيرها على مواقف إماراتية، وأن تتعالى الدعوات عالميًّا إلى فرض عقوبات على الاحتلال، إذا ما أقدم على تنفيذ الضم. وأما عربيًّا، فلا يخفى أن خطورة هذه الخطوة تكمن في كسر الإجماع العربي المعلن، وفي فسحه المجال أمام دول عربية راغبة في التطبيع والتجاوز الدائم لكل الاستهتارات الاحتلالية بالحقوق العربية والفلسطينية، لكي تحذو حذو الإمارات، أو لكي، على الأقل، لا تتخذ خطواتٍ فعليَّة، ضدّ الضم، ثم إنه يمنح نتنياهو واليمين العنصري المتطرِّف معه أمام المعارضين من شعبه وأحزابه، تشجيعًا على خطوةٍ بدت صعبة، ومغامرةً ومحفوفة بالمخاطر. وبهذا يؤكِّد نتنياهو ما طالما كرّره أنه بالإمكان الاستمرار في الاستيطان والتهويد والضم وفرض السيادة الاحتلالية، بلا أيِّ ثمن يقدِّمه للفلسطينيين، وأنّ ذلك لن يعيق التقدُّم في علاقات الاحتلال بالمحيط العربي.
ومع ذلك، الأرجح أن هذا الموقف المنفلت لن يخفف من فداحة جريمة الضم الاحتلالية الإضافية المزمعة، وسيبدو شاذًّا، وذلك لانكشاف الموقف الاحتلالي، وشدّة مصادمته القانون الدولي. ومع أن العتيبة كان قد جعل الضمَّ مانعًا من أن تكون العلاقات الإماراتية الاحتلالية بوَّابة لإسرائيل والعالم، فإن تجاوُز هذا المانع لن يمكِّن الإمارات من أن تكون تلك البوَّابة.
العربي الجديد