أثار قرار السلطة الفلسطينية في رام الله المثير للجدل، القاضي بحرمان مئات الموظفين في قطاع غزة من رواتبهم، أو تقليصها وفرض حسوماتٍ كبيرة عليها، شجوني وحرك أحزاني، وبعث في قلبي أضغاني القديمة وآلامي الحبيسة، ومعاناتي الكبيرة، وشكاتي الحزينة، ومرارتي الأليمة، فدفعني للكتابة عنه بحرقةٍ وألمٍ، وحزنٍ وشجنٍ، وغضبٍ عارمٍ وثورةٍ صادقةٍ، وإحساسٍ كبيرٍ بالظلم والهضم، فهذا قرارٌ يزلزل الأرض ويميد بها تحت أقدام السلطات، ويخرج المواطنين في ثوراتٍ ومظاهراتٍ، ومسيراتٍ واحتجاجاتٍ، وهو قرارٌ في غير بلادنا يهدد أنظمةً ويسقط حكوماتٍ، ويخضع مسؤولين للتحقيق ويفرض أحكامًا على متجاوزي القانون ومستغلي السلطة والمراكز، لكنه يبدو في بلادنا قرارًا عاديًا، لا يحرك ساكنًا، ولا يثير غضبًا، ولا يدفع غيورًا لأن يتمعر وجهه، وتنتفخ أوداجه ويعلو صوته، وتحتد كلماته انتصارًا للحق ودفاعًا عن حقٍ.
ذكرني هذا القرار الجائر، وهذه السياسات الاستنسابية الظالمة، الشخصية الفردية المزاجية الكيدية، المتهورة المجنونة غير العاقلة، البعيدة عن المؤسسة والتنظيم، والخالية من الحكمة والصالح العام، والمجافية للحق والمناوئة للعدل، التي لا تخشى الله ولا تتقه، ولا تصون الأمانة ولا تؤدي الحقوق، والمنبعثة من ضمائر ميتة وأحاسيس متبلدة، ومنافع متوقعة ومصالح مرجوة، بما أصابني ولحق بي، إذ حرمت راتبي لسنواتٍ وما زلتُ، وتمت مصادرة حقي فيه المنصوص عليه قانونًا والمعترف به عرفًا، رغم محاولاتي المستمرة لاستعادته، فهذا الراتب ليس حقًا لي فقط، إنما هو حق زوجتي وبناتي، وأسرتي وعائلتي، ومع ذلك فقد حرمتُه وحرموا، واغتصب حقي وحقوقهم، ولم تنفع المطالبة الناعمة، ولم تجدِ الشكوى الهادئة، ولم ينتصر القضاء العادل، وأوصدت الأبواب وأغلقت الكُوى، طاعةً للرئيس المفدى وخوفًا من عصاه الغليظة، ورغبةً في صناديقه العامرة، وعطاءاته الغامرة، وامتيازاته المغرية، وما زال الظلم قائمًا، والحق مغتصبًا، والحاكم بأمره في ظلمه يمور، وفي غيه يجور.
المغتصبون للحقوق في كل مكان، المعتدون على أرزاق العباد ولقمة عيش الفقراء والمساكين، المزاحمون للعمال والموظفين، وصغار الكسبة وعامة الباعة الجوالين، أصحاب السلطات على اختلافها وتنوعها، الذين يستغلون الوظائف لثني الناس عن مواقفهم، ويستخدمون الرواتب للي أعناق العباد وإذلالهم، ويضيقون على معارضيهم سبل العيش ويغلقون أمامهم أبواب الرزق، ويحاربونهم في أرزاقهم ويمنعون كسرة الخبز عن أطفالهم، أولئك جميعًا عقليتهم واحدة، ومنهجهم واحدٌ لا يتغير، وأدواتهم المستخدمة هي نفسها القديمة والجديدة، لا تتغير ولا تتبدل، ولكنها تتنوع وتتشكل.
إنهم عنجهيون مستبدون ظالمون، منبتون عن مجتمعهم، ومعزولون عن محيطهم، ومتكبرون على شعبهم، ومتسلطون على من يلونهم، بل إنهم مرضى النفوس، ومشوشو العقول ومشوهو التفكير، يعيشون في أبراجٍ عاجيةٍ، ومن علٍ بازدراءٍ ينظرون إلى شعوبهم، لا يهمهم عملهم، ولا يعنيهم رزقهم، ولا تشغلهم حاجتهم، ولا يقلقهم إن جاع أطفالهم أو مرضوا، أو إن هم ناموا في العراء أو هلكوا، فهذا أمرٌ لا يعنيهم ما دام أبناؤهم بخير، وجيوبهم عامرة، وسياراتهم فاخرة، وبيوتهم فارهة، ووظائفهم جاهزة، ومستقبلهم مضمون، وأسرهم تعيش بسلامٍ وتنام باطمئنانٍ، فلا تعاني من غولٍ ولا حاجةٍ، ولا تشكو من عوزٍ أو مجاعة، ولا يتهددها مبيتٌ في العراء أو سكنٌ سقفه السماء.
مغتصبو الحقوق والمعتدون على رواتب الموظفين وأجور العمال، لا يحكمهم عقل، ولا ينظم تفكيرهم منطق، ولا يضبط تصرفاتهم حكمةٌ، إنما ينطلقون في قراراتهم من السلطة التي بها يتغولون، والمناصب التي بها يتحكمون، والصلاحيات التي بها يتمتعون، والمال الذي به يشترون ويبيعون، ويصدرون قراراتهم معتمدين على القوة التي يملكون، ومستندين إلى التفرد الذي به يحكمون، ومطمئنين إلى الاستبداد الذي به يسوسون، إنهم لا يستندون إلى حق، ولا يعتمدون على قانون، ولا يحتكمون إلى سابقةٍ، إنما يمضون رغباتهم، وينفذون سياساتهم بقصد الإذلال والإهانة، والتجويع والتركيع، وليس هناك من يردعهم أو يعنفهم، ولا يوجد من يقوى على صدهم أو وضع حدٍ لهم، ولا يفكر أحدٌ بالثورة ضدهم أو الانقلاب عليهم، خوفًا ورهبًا، أو طمعًا وأملًا، ولهذا يتجرؤون وعلى مثل هذه القرارات الظالمة المجحفة يقدمون.
هذا الصنف من الناس لا يمكن مخاطبته بالعقل، أو تحريك مشاعره الإنسانية بلطيف الكلام ولين القول، أو استنفار ضميره واستنهاض قيمه بالمعاني السامية والهمم العالية والكلمات الرقيقة، فهم لا يستجيبون ولا يسمعون، ولا يغيرون ولا يبدلون، فكأنما سدت آذانهم فأصابها الصمم، وعميت عيونهم وطمس على قلوبهم وماتت ضمائرهم، فلم يعودوا يرون حقًا غير ما يقولون، ولا يقبلون بنصحٍ غير ما يتوافق مع أهوائهم ويلتقي مع مصالحهم، والويل كل الويل لمن يخالف أمرهم، أو لا يصفق لقرارهم، ولا يحترم توجيهاتهم، إذ سيصيبه ما أصاب المحرومين، وستلحق به لعنة المطرودين من جنتهم، والمحرومين من نعيمهم.
أيها الظالمون الضالون، المفسدون المعتدون، المتغطرسون المتفاخرون، ألا فاعلموا أنه لا يجوز ولا بحالٍ من الأحوال أن نربط الحقوق بالولاءات، أو أن نرهن الرواتب بالميول والاتجاهات، أو أن نعاقب العامة بفعل الخاصة، إذ لا يحق أن نعاقب أسرنا ونحرم أبناء وطننا من حقوقهم، وأن نطردهم من وظائفهم، وأن نتركهم لغوائل الأيام تنهشهم، ولقسوة الظروف تلعنهم، إنكم بهذه الأعمال المشينة لا تختلفون عن عدوكم الغاصب لأرضنا، المحتل لأوطاننا، والمصادر لحقوقنا والسارق لممتلكاتنا، وهذا إذ نقاتله على ما انتهك من حقوقنا، ونحاربه على ما اقترف ضدنا، فإن أفعالكم لا تقل عن أفعاله جرمًا وعدوانًا، ولا تختلف عن سياسته ذلًا وهوانًا، واعلموا أنه لا فرق أبدًا بين من يجرد الإنسان من حقه وبين من يحتل أرضه، ولا بين من يحرم مواطنًا من رزقه وبين من ينتهك حرمة مقدساته، فذاك مجرمٌ ظالمٌ ولكنه عدو، وهذا ظالمٌ مجرمٌ ولكنه أخٌ وشقيق، وقريبٌ ونسيب.
نؤكد أننا نعيش في ظرفٍ لا يحتمل أبدًا هذه الإجراءات، ومجتمعٍ لا يقوى على تجرع هذه المظالم، فأوضاعنا استثنائية، وأحوالنا صعبة وقاسية، والحصار يخنقنا والعدو يقتلنا، والجوع ينهشنا، والضياع يلاحقنا، والبؤس يفتك بنا، والمرض لا يرحمنا، إلا أننا لسنا ضد القانون، ولا ندعو إلى استباحة المال العام، ولا نقبل بالهدر، ولا نرضى بالوظائف الوهمية، ولا بالرواتب المزدوجة، ولا نساهم في الفوضى، ولا نسكت عن الظلم والمحسوبية، ولكننا ندعو إلى العدل والرحمة، وإلى القانون والرأفة، ونثبت بوعيٍ ويقينٍ، وبفهمٍ واعتقادٍ، أن الرواتب حقوق فرديةٌ شخصيةٌ لا يحق لسلطةٍ أن تصادرها، ولا لهيئةٍ أن تحرم مستحقًا منها، ولا لمسؤولٍ أن يسيسها أو رب عملٍ أن يكيفها، وهي حقوق تبقى ولا تزول، وتحفظ وتصان، ولا تسقط بالتقادم ولا تنسى بمرور الأيام، ولا يسامح فيها صاحب حقٍ، ولا يغفر لمغتصبها رب الخلق وإله العالمين.