فلسطين أون لاين

بين مقتنيات تراثية.. عبد الرحمن أبو ريالة يبحث عن شغفه

...
غزة-يحيى اليعقوبي

الهوية الفلسطينية التراثية, متجذرة ومنقوشة في قلوبٍ ورثوا حبًا وتراثًا وأصالة الآباء والأجداد، بقيت شاهدة على تمسك الشعب الفلسطيني بأرضه وعلى حياته، وهو ما يحاول الغزي عبد الرحمن أبو ريالة إبقاءها حاضرة وحية، بعد أن تجمع لديه شغف الهواية بالاقتناء والبحث ومهنة أمِل من خلالها أن تفتح له باب الرزق لتوفير "لقمة عيش" لأبنائه.

جدران متصدعة؛ تملؤها الشقوق .. حجارة مسقوفة بـ "الأسبست"، بداخل هذا البيت المتواضع بحي اليرموك بمدينة غزة، خصص أبو ريالة غرفة من بيته لجمع المقتنيات التراثية لعدم مقدرته المالية على استئجار مكان يحتويها، وصلنا عتبات المنزل الساعة الثانية ظهرًا، وكان منشغلاً في ترتيب المقتنيات ورصها بشكل جيد يلفت الزائرين، قطرات العرق على جبينه تخبرك بذلك، قبل أن يخبرك هو.

بنظرة خاطفة للغرفة، ترى على يمين مدخلها، أباريق القهوة وأواني قديمة، صنعت يدويا، ومناجل، وللأمام لوحات ورسومات مطرزة يدويا، وسيوف وخناجر بذات المواصفات القديمة، وعملات نقدية، وكل ما كان يستعمله الشعب الفلسطيني قبل مائة عام.

تقدم خطوات للأمام، واصطحبنا بجولة داخل مشروعه الجديد، هو في الحقيقة أعادنا إلى حياة الآباء والأجداد، ألقى نظرة على السيف المعلق في صدر الغرفة، بعد أن حمله، قائلاً: "هذا السيف صنع بنفس المواصفات القديمة لكن باختلاف المكونات".

ما إن تسحب السيف من غمده، يجب عليك أن تشده وتعيده بقوة، تجذبك يده المنقوشة بالزخارف، وحدته، بقربه خنجر يده مصنوعة من عظام الحيوانات وغمده مصنوع من قرن حيوان، تلفت انتباهك مهارة الصانع، الذي زين وسط الغمد بجوهرة خضراء، وبقربه خنجر صغير فضي بحجم كفة اليد.

ترك السيف، وأمسك إبريق قهوة مصنوعا من النحاس، مضيفا وبدأ سعيدا وهو يعرفنا على أصالة الشعب الفلسطيني، يتضح لك من كلامه إلمامه بالتراث: "هذا؛ الإبريق مصنوع من النحاس، لكنه مطلي بمادة "القصدير" حتى لا يتفاعل النحاس مع جسم الإنسان".

يهز الإبريق براحة يده: "تنظر؛ كم هو ثقيل وهذا يدلل على جودة الصناعة".

"المقتنيات التراثية، تعبر عن أصالة الشعب الفلسطيني" قال كذلك وترك ما بيده.

مقتنيات نادرة

اتجه نظره للأسفل، توقف تحديدًا عند حلقة دائرية صخرية تستخدم في طحن "الدقيق"، وهي مكونة من طبقتين صخريتين واحدة ثابتة والأخرى متحركة بها مقبض تدور مع حركة اليد، في أعلاها فتحة صغيرة لسكب حبوب القمح بداخلها، وبعد لفها عدة مرات يخرج الدقيق مطحونا من فتحة أخرى بالأسفل.

حرك أبو ريالة الطاحون، مؤكدا أنها لا زالت تعمل حتى اليوم، معلقا بعد أن توقفت حركة يده الدائرية، وبينما هو على ذات الهيئة علق على عملها: "هذه، تعد من المقتنيات التراثية النادرة، فهي مصنوعة من حجر "الصوان "، وهذا الحجر موجود في الجبال".

طرق عليها بيده عدة مرات: "أترى؛ كيف هي قوية؟".

في الأعلى ترى موقد نار للطهي قاعدته نحاسية، في أعلاها منصب لوضع الأواني والأباريق عليه، على الجانب الآخر تجذبك بسط تراثية ملونة بألوان البادية، الأسمر والأحمر والأبيض، يعرفنا أبو ريالة أكثر بعد أن أخرج واحدة وفردها: "هذه البسط، مصنوعة من شعر الجمال، وكانوا يقومون بتلوينها أو تركها بلون الجمل الأصلي".

في زاوية الغرفة، يتسلل شعاع الشمس خلسة من نافذة الغرفة ليستقر على وجه طبق ناحسي بقطر نحو 90 سم دائري الشكل، تزيده بريقا ولمعانا، بهذا الانعكاس الأخاذ يحافظ الطبق على نفسه مضيئا وجاذبا لأي شخص منذ مائة عام، تشدك أكثر حروف "سورة الإخلاص" المحفورة يدويا بأيدي صانع ماهر، أحسن الصنع وأتقنه، فحافظت الجميلة الصفراء على نفسها، ولم تتأثر بعوامل الطقس وظلت كأنها صنعت اليوم، ما إن تحاول رفعها ستشعر بثقل وزنها.

في الجهة المقابلة، عشرات البراويز اليدوية، كل برواز يضم رسمة، يقابلك منظر طبيعي لبحر وأشجار، ورجل وامرأة، لعل الرسام أراد إيصال جمال الهدوء، لكن لك أن تتخيل أن هذا البرواز لم يرسم بريشة، بل بإبرة وخيط، وألوان كثيرة.

في الغرفة ذاتها، رأينا مصباحا مضيئا كان ينير الطرقات يعتمد على الضغط الهوائي لإشعال الفتيل ومن ثم تعليقه على أماكن مرتفعة خاصة، وسلة مصنوعة من عيدان أشجار رفيعة "بوص" لتعبئة المحاصيل.

توقفنا أمام حجر "نيزك" بحجم قبضتي اليد، يخدعك حجمه الصغير مقارنة بوزنه الذي ربما يبلغ 3 كغم، وبجواره حجارة بركانية صغيرة بأشكال وألوان متعددة بين الرمادي والأسود والبني، شارحا: "نميز الحجر النيزكي من خلال احتوائه على نسبة معادن وحديد، أي أنه يلتقط المغناطيس نوعا ما".

اهتمامات ودوافع

منذ متى بدأت بالاقتناء؟ .. إجابة مزجت بين الاهتمام والمهنة: "في السابق كان لدي اهتمام بها كهواية، لكن بسبب الظروف الصعبة ومسؤولياتي العائلية فلدي ثلاثة أبناء يحتاجون لتلبية احتياجاتهم ما دفعني لأخذها كمهنة لتوفير دخل من خلالها".

ماذا عن زبائنها ؟ يشير نحو ما تحتوي الغرفة من مقتنيات جمعها، ويجيب: "لها زبائن، حتى أن المجتمع في غزة بدأ في البحث عنها واقتنائها، يضعونها في السهرات وجلسات السمر، خاصة عند الأعراس فيما يعرف بـ "الدحية"، بعض الناس تضعها كزينة منزلية، وللمقاعد و"الديوان" العائلي".

استطاع عبد الرحمن من خلال المشروع تحسين مدخوله، وتطوير نفسه، وأجمل شعور بالنسبة له وهو جالس بين مقتنياته، غارقا في تفاصيلها، يبحث عن تاريخ أصالة أجداده، بين نقوشها وأزمنة صناعتها، يتأمل شكلها واستخداماتها، رابطا الماضي والحاضر، اختلفت المدة الزمنية وبقيت هوية الشعب الفلسطيني ثابتة لا تتغير.