أشخاص وقادة كانوا بيننا؛ نراهم كل يوم، نسمع كلامهم وأحاديثهم عبر الشاشات أو الصحف؛ بعضهم يرحلون ويتركون إرثًا طويلًا، يغادرون ويبقون في القلب والذاكرة، لا تنسى كلماتهم، ومواقفهم، تضحياتهم التي سطروها وكتبت، وكأن كل شيء قدموه يولد من جديد بعد رحيلهم، ومنهم الأمين العام السابق لحركة الجهاد الإسلامي د. رمضان عبد الله شلح، الذي توفي بعد صراع مع المرض.
غزة التي ولد فيها شلح بحي الشجاعية قدمت واجب العزاء، لكن على طريقة تكريم شهداء وقادة قدموا أرواحهم لأجل القضية الفلسطينية، فالرجل الذي أفنى حياته في الدفاع عن القضية والعلم أقيم له بيت عزاء وطني، في ساحة الكتيبة بالمدينة، وفاءً له.
في داخل بيت العزاء لا تحتاج إلى جهد كبير للوصول إلى شقيقه محمد، فحتمًا ملامح الشبه ستوصلك إليه.
بداية التكوين
ربما عرف الناس الكثير عن شخصية "أبي عبد الله" أمينًا عامًّا "للجهاد"، ومفكرًا وسياسيًّا، لكن شقيقه محمد أبحر في شخصيته الاجتماعية، وهنا لا بد من العودة للبداية، بعد أن استأذن أقاربه لإجراء المقابلة مع صحيفة "فلسطين" ورفض العودة للبيت لأخذ قسط من الراحة، جلس على كرسي بلاستيكي ومسح جبينه، ليقول بصوت فيه ما فيه من الشجون وحب الأخ لأخيه: "نشأ أخي د. رمضان في بيئة متواضعة على المستوى الاقتصادي، فكان والدي ممن تعلم في "الكتاتيب" ولم يكمل دراسته، لكنه حفظ القرآن وكان شيخًا، فاستفاد أخي كما باقي الأبناء من تربية والدي".
يستدرك: "لكن أخي كان الأكثر تفوقًا".
يجلس شقيق "الأمين العام" السابق -وإن بدا متماسكًا- ترى الحزن متخفيًا في عينيه، ونبرة صوته، ولا يزال يبحر بتلك الشخصية: "تميز في تعليمه الابتدائي حتى الثانوي، وامتاز بهوايات متعددة، فكان نابغًا في الخطابة والقراءة، وخطاطًا ورسامًا ولاعبًا مميزًا في كرة السلة، وسباحًا مميزًا، يجيد اللغة العبرية واستطاع ترجمة كتاب "التمرد" لـ"مناحيم بيغن"، وله هواية في الشعر والأدب والقصص، ويشارك في مسابقات ومهرجانات واحتفالات".
يتابع: "حينما ذهب إلى مصر ودرس بكالوريوس الاقتصاد في جامعة "الزقازيق" حصل على المرتبة الأولى، لكنه حرم التكريم ونيل الجائزة".
الذراع اليمنى
لكن كان التغيير الكبير في شخصية د. رمضان عندما تعرف في الجامعات المصرية إلى د. فتحي الشقاقي (مؤسس حركة الجهاد الإسلامي)، فوظف تجربته العلمية في مشروع الشقاقي (تأسيس الجهاد) وكان ذراعه اليمنى؛ كما يصفه شقيقه محمد.
بعد عودته لغزة عمل معيدًا بالجامعة الإسلامية ما بين 1981م و1986م، و"عرف بخطبه الجهادية"، ففرض الاحتلال الإقامة الجبرية عليه ومنعه من العمل بالجامعة، فاقترح عليه من حوله إكمال دراسته العليا، ودرس الماجستير والدكتوراة معًا في جامعة "درم" ببريطانيا.
ثم عمل أستاذًا لدراسات الشرق الأوسط في جامعة جنوبي فلوريدا بالولايات المتحدة عام 1993م، حيث ساهم في تأسيس مركز الدراسات الإسلامية، ومجلة إسلامية تصدر في أمريكا، بعدما ترك بريطانيا.
يقول شقيقه: "عام 1995م فكر أخي بالاستقرار في قطاع غزة، ليواصل مقاومة الاحتلال من أرض الوطن".
وتولى في العام ذاته منصب الأمين العام لـ"الجهاد الإسلامي"، خلفًا للشهيد الشقاقي الذي اغتاله الموساد الإسرائيلي في مالطا.
على المستوى العائلي كيف كان التواصل؟، بصوت هادئ رزين امتزج بالشوق يرد: "لم يعطنا أخي نصيبنا من اللقاء معه، فكان يخصص جل وقته لأجل القضية، ربما سافرت وقابلته ثلاث مرات كانت آخرها قبل مرضه، وهناك نصحته بأن يزوج ابنه ويشتري بيتًا له ويضمن مستقبلهم".
وقبل المرض كان د. رمضان أعد وثيقة لـ"الجهاد الإسلامي"، ووضع لائحة داخلية للحركة، نتج عنها انتخاب المكتب السياسي.
حياة زهيدة
"أتدري؟!" يقول شقيقه، ثم يجيب: "د. رمضان لا يمتلك عقارًا ولا بيتًا باسمه ولا قطعة أرض ولا حسابًا بنكيًّا، كان تاركًا كل ذلك لله، يكتفي براتبه الشهري من "الجهاد الإسلامي" ولا يزيد على 1200 دولار شهريًّا، كنا نقول له: "اضمن مستقبل أولادك، ولو ببيت"، فيرد مقولته المعتادة: "الضامن هو الله"، وأولاده وزوجته يقيمون بشقة تابعة للحركة في دمشق، ونحن جهزنا لهم شقة في بيتنا، حتى إنه في الحركة لم يتدخل في موضوع المال".
اليوم الخامس عشر للعدوان الإسرائيلي سنة 2014م: يسأل مذيع قناة "الميادين" في لقاء متلفز د. رمضان: "الرأي العام ينتظر ما ستقول: عن المقاومة، و"التهدئة"، والاتصالات الجارية؟"، فيجيب بهدوء واتزان معروف بهما: "نحن واثقون في النصر، بل إنه بدأت بشائره، أما المقاومة فنحن نخوض معركة غير مسبوقة في تاريخ الصراع، نستهدف "الكيان" بسلاح المقاومة من على أرض فلسطين".
في نظرته إلى منظمة التحرير، قال في لقاء متلفز آخر: "كل كلامنا عن منظمة التحرير وإعادة بناء المنظمة، هذا نوع من اللغو السياسي، الذي عمر بالساحة الفلسطينية، لأن المنظمة لديها مشكلة في الشرعية (...) أنا بدي منظمة ممثل وحيد للشعب الفلسطيني، هل يعقل أن منظمة تكون ممثلًا ووحيدًا للشعب الفلسطيني ولا يوجد فيها حماس والجهاد؟!، كما أن لديها مشكلة في الشرعية الكفاحية، فقامت من أجل التحرير".
ثلاث صفات
سياسيًّا، يقول القيادي في "الجهاد الإسلامي" أحمد المدلل عن شخصية شلح: "جمع ثلاث صفات مهمة لقائد الحركة، كان قارئًا، لديه عمق في الفكر، وموهبة في الخطابة، وكان سياسيًّا محنكًا استطاع تجميع الأطياف الفلسطينية كافة، ولديه كاريزما خاصة، فوجدنا علاقة شخصية بينه وبين الرئيس السابق للمكتب السياسي لحماس، خالد مشعل، فكان أي موضوع يخص القضية الفلسطينية يناقشه معه، وكان هناك تنسيق عال بين الحركتين لأننا أصحاب مشروع واحد".
تبعًا لكلام المدلل، "إدارة "شلح" للحالة العسكرية كانت مميزة، تعاظم فيها العمل العسكري لـ"سرايا القدس"، وترك إرثًا كبيرًا على مستوى الفكر والسياسة، والأداء العسكري في الميدان".
يضيف: "كان يطالبنا بتجديد الدماء والتحضير لجيل "أسامة بن زيد"، في آخر أيامه أصدر وثيقة سياسية للحركة".
بعد اغتيال "الشقاقي" أضاف "شلح" الكثير إلى الحركة، يختم المدلل: "حمل د. رمضان الإرث من الشقاقي (...) كان على اتصال دائم بالداخل، تفاعل مع القضية الفلسطينية تفاعلًا كبيرًا، زاد من علاقات الحركة بالأطراف كافة، وتقدمت الحركة كثيرًا، زادت إمكاناتها وزاد دعم الحلفاء لها، وزاد التنسيق مع حماس، وكان يقول: "قوة حماس قوة للجهاد، والعكس"، وعد اتفاقيات أوسلو أم الكوارث".