في وقت كانت الأناشيد الوطنية العربية تزف الانتصار عبر الإذاعات، كان المواطن العربي ينتظر إعلان الهزيمة الساحقة للاحتلال الإسرائيلي، لا ينسى من عاشوا تلك المرحلة صوت المذيع المصري أحمد سعيد وهو يشحذ الهمم: "طائراتهم تتساقط كالذباب، في البحر حنرميهم .. تجوّع يا سمك القرش".
لكن على مدار ستة أيام كان الاحتلال يبتلع أراضي عربية ويكمل احتلاله لمدينة القدس، والضفة الغربية وقطاع غزة وشبه جزيرة سيناء وهضبة الجولان السورية، وأفاق العرب على وقع ما وصفت بـ"أم الهزائم" التي ما زالت آثارها حتى اليوم.
صحيفة "فلسطين" تقف في حوارها مع المقدسي زياد حموري (71 عامًا) الذي عاصر أحداث النكسة عند تفاصيل حدث غير مجرى الصراع، وكان له عواقب سياسية كبيرة، في الخامس من حزيران (يونيو) 1967م.
ملامح وإشارات
على الطرف الآخر من سماعة الهاتف، كانت ذاكرة سحبتنا إلى تلك المرحلة، وما زالت تحتفظ بتلك التفاصيل والأحداث، يقول: "قبل الحرب كانت هناك ملامح وإشارات، واستعدادات كذلك (...) كانت سني 18 عامًا، ويومها كان شرقي القدس خاضعًا للحكم الأردني".
قبل الخوض في تفاصيل الحرب والمشهد السياسي بعدها، ينقلنا الحموري إلى مظاهر الحياة اليومية هناك: "شكل الحياة مختلف عن يومنا الحالي، كان سوق "الحسبة" من الأماكن المهمة، وهذا السوق لبيع الخضار، وسوق "الجمعة" للماشية، وأسواق البلدة القديمة".
أما المركز التجاري للمدينة فكان في حارة "النصارى"، واشتهرت ببيع الألبسة، والخياطة، وكان يرتاد المسجد الأقصى يوم الجمعة نحو 250 ألف مصل، مع أن تعداد سكان القدس لم يتجاوز 65 ألفًا، وهذا يدلل على ارتباط الفلسطينيين بالأقصى.
قبل الهجوم
لا يزال يرسم مشهد الاستعدادات التي سبقت الحرب: "وضع الناس في القدس أكياسًا من الرمل على نوافذ منازلهم، نحن في منطقة سكني في "بيت حنينا"، خرجنا من المنازل وتجمعنا في كراج للسيارات تحت أحد المنازل، في صباح يوم الاثنين، بدأ هجوم قوات الاحتلال الإسرائيلي، وكنا نسمع صوت طائرات ومدافع، ومن كان يسمع الإذاعات العربية يعتقد أننا منتصرون، خاصة كلمات المذيع المصري في "صوت العرب" أحمد سعيد: (هنيئًا لك يا سمك القرش)".
"في اليوم التالي، بدأت أصوات المدافع تسكت وتنخفض" يقول وكأنه يعيش المشهد من جديد، لكن هذا الموقف كان له وقع خاص عليه: "خرجت إلى الشارع، فرأيت دبابة على نهاية الطريق لا تحمل راية، فلوحت بيدي باتجاهها واعتقدت أنها تابعة للجيش العراقي، وبينما أنا على تلك الهيئة أطلق جندي النار باتجاهي وأرعبني، فعدت للكراج، وكانت تابعة للاحتلال".
"بعد لحظات -يتابع- سمعنا أصوات بساطير جنود، واكتشفوا وجودنا في داخل الكراج، في البداية فصلوا الرجال عن النساء، ومددونا على الأرض أكثر من ساعة، يومها اعتقدت أمهاتنا أنهم سيصفوننا كما فعلوا سنة 1948م".
بطولات فردية
في الخارج كان المشهد مختلفًا: جثث على الأرض، ودماء، وبيوت مدمرة، مشهد لا يزال عالقًا في ذاكرة حموري: "كانت مئات الجثث للمواطنين الفلسطينيين وجنود أردنيين، جزء كبير من المحال التجارية والمصانع نهبها الاحتلال (...) الجثث في الطريق كانت لأناس واصلوا الدفاع عن القدس حتى آخر اللحظات، خاصة منطقة "وادي الجوز" التحمت فيها دماء الفلسطينيين والأردنيين الذين رفضوا الاستسلام واستمروا في القتال وسطروا أروع الملاحم في البطولات الفردية".
لم يدخل الاحتلال -والكلام لحموري- شرقي القدس من مدخل واحد، بل بدأ بقصف جميع أماكن ونقاط وحدات الدفاع الأردنية، ثم دخل المدينة في غضون عدة ساعات معدودة، ولم يكن هناك سواتر لإعاقة تقدمه، يذكر أنه من ضمن ما سرب في تلك المدة على لسان قادة جيش الاحتلال أنه طلب من الأردن عدم المشاركة في الحرب، لكنها دخلت فيها.
"على صعيدي الشخصي وكتير ناس مثلي كنا متوقعين نسترد بلادنا"، كان يعتقد حموري ويتوقع ذلك، لكنه أفاق على وقع "الصدمة" والهزيمة للجيوش العربية، أما السبب فيقول عنه: "ربما يرجع الأمر لقلة التخطيط، فكانت الأنظمة العربية تستبعد الحرب، لكن في ساعات معدودة دمرت معدات وطائرات كبيرة للجيش المصري، ويومها كانت آمال كبيرة مبنية عليه".
يعلق حموري على الهزيمة: "الجيوش العربية غاب عنها التنسيق بين وحداتها، ولم يكن هناك استعداد للحرب، خاصة أنه سبقت الحرب توترات سياسية ومؤشرات على أن الأمور ذاهبة نحو الحرب، فلم تتخذ أي خطوات بهذا الاتجاه"، مضيفًا: "رأينا كيف خسرت الجيوش العربية في سيناء، وفي الجولان، وكيف خسر الجيش الأردني الضفة الغربية خلال ساعات معدودة".
"الشعور كان مذلًّا، أنك بين يوم وليلة تجد الأمور تغيرت وتجدك محتلًّا" هذا الشعور الذي عاشه حموري وبقية الناس حوله.
تفريغ المدينة
كيف كان المشهد بعد الحرب؟، يختصر إجابته بوصف الساعات الأولى التي أتبعت احتلال كامل المدينة المقدسة: "بدت الشوارع فارغة، منع تجول، وسيارات ودبابات جديدة تتجول في الشوارع، كان المشهد غريبًا علينا، ولم نتأقلم عليه إلا بعد وقت طويل، حتى إن أهل القدس اعتقدوا أن القضية مؤقتة، لذلك أضرب الكثير من الأطباء والمعلمين، ورفضوا التعامل مع الاحتلال، ورفضوا وجوده".
وبعد الحرب، سيّر الاحتلال حافلات لتهجير السكان من القدس وأماكن أخرى من الضفة الغربية إلى الحدود مع الأردن، وأجبرهم على توقيع وثيقة تزعم أنهم يرحلون بمحض إرادتهم.
يتابع: "اضطر كثيرون إلى الذهاب بالحافلات، أو من طريق من يسمون "الأدلاء" (مهربين)، كانوا ينزلون الناس في الليل عند نهر الأردن، ثم يتركونهم يقطعون النهر بمفردهم، وبعد عدة شهور حاول كثير ممن هُجروا إلى الأردن العودة، لكن قوات الاحتلال كانت تقتلهم".
يستذكر: "حتى إنهم كانوا يقتلون من يصادفونهم في أثناء رحلة الهجرة القسرية من القدس إلى الأردن".
المشهد بعد الحرب
لكن قام الاحتلال بعدة خطوات لفرض سيطرته على المدينة، مفسرًا: "سرقت قوات الاحتلال جميع محتويات المحال التجارية المقدسية، وصادرت البضائع من الأسواق، وأصبحت الأسواق فارغة، وهذا ما أجبر التجار المقدسيين على شراء البضائع من التجار الإسرائيليين، وكانت هذه الخطوة الأولى غير الرسمية".
أما حكومة الاحتلال -يتابع- ففرضت "قوانينها" على كامل المدينة، كما هو الحال في الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1948م، وهدمت حارة باب المغاربة، ويكمل: "جزء من الأهالي هدمت بيوتهم عليهم، وهذه الخطوات أشعرتنا أن الاحتلال لديه مخططات معدة سلفًا".
لا يزال يرسم كيف سيطر الاحتلال على كامل القدس: "أحصى الاحتلال أعداد الفلسطينيين في شرقي القدس، ومنحهم ما يسمى (الإقامة الدائمة)".
ويختم حديثه بأن الاحتلال عزز حربه على البنيان والآثار وعمل على إكمال مخططاته التهويدية بعد اتفاق أوسلو الموقع سنة 1993.