في الوقت الذي تتفاقم فيه عنصرية (إسرائيل) وعنجهيتها، ثمة أسئلة واقعية تبرز إلى الأمام بقوة عن مكامن القوة والضعف في التجمع الاستيطاني الإسرائيلي، وتاليًا مستقبل (إسرائيل) دولة أبارتايد، وقد أجاب عن تلك الأسئلة عدد من المفكرين الإسرائيليين والعرب.
وفي هذا السياق أكد المفكر المؤرخ الإسرائيلي بني موريس في أكثر من لقاء صحفي خلال السنوات الأخيرة أنه "لا يرى مخرجًا لـ(إسرائيل)، بسبب عدم وجود فرص في البقاء "دولة يهودية"، نظرًا لأن العرب أكثر من اليهود بين البحر الأبيض المتوسط والأردن، وستصبح الأرض بأكملها حتمًا دولة واحدة ذات أغلبية عربية، وأشار إلى أن (إسرائيل) لا تزال تدعو نفسها دولة يهودية، مستدركًا: "لكن حكمنا لشعب محتل بلا حقوق ليس وضعًا يمكن أن يدوم في القرن الحادي والعشرين، في العالم الحديث".
ماذا عن المستقبل؟
إضافة إلى ما قاله بني مورس وغيره من المفكرين الإسرائيليين عن مستقبل (إسرائيل)، أثارت بعض الأعمال الدرامية الإسرائيلية -ومنها الفيلم السينمائي الذي حمل عنوان "2048"- ذعر الإسرائيليين، خاصة المهاجرين الجدد من الصهاينة، وجعلهم يفكرون في النهاية المتوقعة لدولتهم، إذ تحدث الفيلم قبل عدة سنوات عن نهاية (إسرائيل) وزوالها من الوجود، وهو الهاجس الذي يطارد كل مستوطن إسرائيلي.
وقال مخرج الفيلم (وهو يحمل الجنسية الإسرائيلية، ويدعى كفتوري) لصحيفة "جروزاليم بوست" الإسرائيلية: "أشعر أننا نسير في الاتجاه الخطأ ونهدد بتدمير (إسرائيل)، وهذا لا يأتي بموجب تهديد خارجي، بل من الداخل"، لأنه لاحظ وجود تناقضات كبيرة داخل التجمع الاستيطاني الإسرائيلي، الذي يضم مجموعات يهودية غير متجانسة تعود أصولهم إلى أكثر من (100) دولة في العالم، ويمكن الجزم بأن هناك تناقضات جوهرية داخل التجمع الاستيطاني الإسرائيلي ستدفع إلى الاعتقاد بزوال (إسرائيل) بعد انتهاء دورها الوظيفي.
حقيقة زوال (إسرائيل) ليست أمنية لكل فلسطيني فحسب، فثمة تقارير تصدر دوريًّا عن وكالة الاستخبارات الأمريكية تتنبأ بأفول (إسرائيل) كما تنبأت في السابق بسقوط الاتحاد السوفييتي السابق ودولة الأبرتايد في جنوب إفريقيا؛ وتستند تقارير وكالة الاستخبارات الأمريكية إلى حقائق، في مقدمتها عنصرية (إسرائيل) المتفاقمة وعدم قدرتها على الاستمرار وسط أكثرية عربية داخل فلسطين ومحيطها العربي الكثيف.
ويلحظ المتابع أنه منذ إنشاء (إسرائيل) في عام 1948م لم يتبوأ اليهود الشرقيون مناصب رئيسة في المؤسسات الإسرائيلية المختلفة، خاصة منصب رئيس الوزراء، على أساس أن بناة دولة الاحتلال الأوائل هم اليهود الغربيون (الأشكناز)، وثمة شواهد عنصرية أخرى داخل التجمع الاستيطاني الإسرائيلي، ومنها رفض تبرع يهود الفلاشا من أصول إثيوبية بالدم لصناديق التبرع قبل أكثر من عقدين من الزمن.
قوة (إسرائيل) الهشة
في مقابل ذلك هناك أسئلة أخرى عن عوامل استمرار (إسرائيل) دولة أبارتايد، إذ أشار الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري في موسوعته عن اليهود واليهودية والصهيونية إلى أن مقومات الحياة في (إسرائيل) ليست من داخلها وإنما من خارجها، ولهذا أكد المسيري أنه "يوجد عنصران أساسيان، هما: الدعم الأميركي بلا حدود، والغياب العربي أيضًا بلا حدود، هذان العنصران هما اللذان يضمنان بقاء (إسرائيل) واستمرارها".
وقد استطاعت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ عام 1948م استحضار حليف خارجي له وزنه في إطار العلاقات الدولية؛ بغية المزاوجة بين إمكاناتها الذاتية والدعم الخارجي لها وتعزيز شكل من أشكال القوة، واستثمار تلك القوة في اتجاهين: الاتجاه الأول يتمثل في محاولة استكمال بناء المؤسسات الإسرائيلية؛ وتوفير المقومات الاقتصادية والبشرية والعسكرية الضامنة لبقاء واستمرار (إسرائيل) دولة غير طبيعية في المنطقة العربية، أما الاتجاه الثاني فيكمن في استحضار القوة للتصدي للتحديات الخارجية، ونقصد هنا هاجس الخوف الإسرائيلي من القوة العسكرية العربية.
ويذكر أن (إسرائيل) اتجهت إلى التحالف مع فرنسا في منتصف الخمسينيات من القرن العشرين مصدرًا أساسيًّا لتسليح الجيش الإسرائيلي، كما استطاعت بناء علاقة وطيدة مع ألمانيا الغربية سابقًا، واستفادت من الدعم الألماني المتميز في المجالات العسكرية والاقتصادية حتى منتصف السبعينيات من القرن المنصرم، وقد سبق تلك العلاقات اعتماد الحركة الصهيونية ووليدتها (إسرائيل) على الدعم البريطاني في المجالات الدبلوماسية والسياسية والعسكرية.
وبعد إنشائها في عام 1948م استطاعت (إسرائيل) استحضار حليف قوي، بريطانيا وفرنسا وتاليًا استحضار الحليف الأمريكي القوي، إذ تميزت العلاقة بين الولايات المتحدة و(إسرائيل) بأنها علاقة خاصة مقارنة بعلاقات الولايات المتحدة الأمريكية بالدول الأخرى في العالم، ويكمن السبب في رسم تلك العلاقات في الدور الذي تقوم به (إسرائيل) في إطار المصالح الأمريكية السياسية والإستراتيجية في الشرق الأوسط من جهة، فضلًا عن نشاط اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة ودوره في المحافظة على التأييد الأمريكي لـ(إسرائيل) في المستويات كافة: العسكرية والسياسية والدبلوماسية من جهة أخرى.
وتعد حرب حزيران (يونيو) في عام 1967م حدًّا فاصلًا بين المرحلة التي كانت فيها (إسرائيل) تلعب دورًا مهمًّا في إطار المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، والمرحلة التي أصبحت فيها (إسرائيل) تلعب الدور الرئيس، الأمر الذي ترك بصماته على علاقات الولايات المتحدة المتميزة وغير العادية مع (إسرائيل)، ومولت (إسرائيل) حروبها وعدوانها على الدول العربية بالاعتماد على المساعدات الأمريكية السنوية اللوجستية والطارئة.
وتجاوبت الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ عام 1967م مع الإستراتيجية التي تقوم على تطوير التحالف مع (إسرائيل) وترسيخه في مختلف الميادين السياسية، والاقتصادية، والثقافية، والدبلوماسية، وقد تجلى ذلك بالدعم الأمريكي لـ(إسرائيل) في أروقة المنظمة الدولية، واستخدام حق النقض (الفيتو) ضد أي محاولة لإصدار قرار دولي يدين ممارسات (إسرائيل) واعتداءاتها المتكررة على الدول العربية.
إن استمرار (إسرائيل) دولة أبارتايد على حساب الشعب الفلسطيني ووطنه فلسطين مرهون كاملًا بدورها الوظيفي الذي يخدم الغرب الذي أنشأها على حساب الشعب الفلسطيني ووطنه، والسؤال الذي يطرح نفسه: ما مستقبل (إسرائيل) بعد انتهاء الأهداف التي أنشئت من أجلها؟