فلسطين أون لاين

ثورة السود في أمريكا

مواطن أسود يلفظ أنفاسه خنقًا تحت وطأة قدم رجل شرطة أمريكي أبيض، إنها ليست المرة الأولى التي يقتل فيها مواطن أمريكي أسود على يد شرطي أمريكي أبيض، المشهد العنصري البشع لعملية القتل هز الضمير الإنساني ولكن يبدو أنه لم يؤثر في ضمير الرئيس الأمريكي ترامب المعروف بنزعته العنصرية الاستعلائية، التي تعود جذورها لفترة الاستعباد بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر حيث تم استرقاق ما يقرب من 12 مليون إفريقي وشحنهم إلى الأمريكيتين كعبيد، وفي عام 1860 بلغ تعداد العبيد في الولايات المتحدة وحده حوالي 4 ملايين عبد.

وربما ما قام به الشرطي الأبيض من عملية قتل بشعة هي تعبير عن مكنونات تلك النفس البشرية المريضة بمرض العنصرية كما يقول أستاذ الطب النفسي ألڤين بوسات –بجامعة هارفارد- حيث يعتقد بأن العنصرية المتطرفة هي شكل من أشكال جنون الارتياب (بارانويا)، ويجب علاجها من هذا المنطلق.

معاملة السود في الولايات المتحدة اختلفت باختلاف الفترة التي عاش فيها السود واختلاف المكان، ولكن في العموم كانت الظروف المعيشية سيئة للغاية، تتميز بالوحشية واللاإنسانية. كان التعليم ممنوعًا تمامًا عن السود، لمنع التحرر الفكري، وكانت الشعائر الدينية في بعض الولايات محظورة حتى لا يتسنى للسود التجمع وبالتالي القدرة على التنظيم والتمرد. كانت عقوبات السود المتمردين تتمثل في الجلد، والحرق، والتشويه، والوشم بالنار، وقد تصل للشنق. في بعض الأحيان كانت العقوبات دون سبب محدد، ولكن فقط لتأكيد هيمنة السادة. وكان النخاسون في أمريكا يسيئون معاملة السود جنسيًّا ومن تعترض من السيدات كانت تقتل.

ولك أن تتخيل أنه حتى منتصف الخمسينيات كان ممنوعًا على السود أن يلتحقوا بمدارس مشتركة مع البيض، وبعد أن صدر قرار بدمج البيض والسود في مدارس واحدة تعرض الطلاب السود لمزيد من المعاملة القاسية تم تجسيدها في صورتين متواجدتين بالمتاحف الأمريكية، الأولى لطالبة تدعى اليزابيث ايكفورد في سبتمبر 1957 يصرخ في ووجهها عشرات من الطالبات لطردها من المدرسة، وأخرى في نوفمبر 1960 لطفلة في عامها الدراسي الأول تذهب إلى فصلها المدرسي تحت حراسة الشرطة خوفًا من التعرض للأذى.

منذ ذلك الوقت والسود في أمريكا ورغم محاولاتهم المستمرة للعيش كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات مع البيض، إلا أن كوامن النزعة العنصرية الموجودة في نفوس البيض ما زالت تظهر بين الفينة والأخرى بأبشع مظاهرها والتي كان آخرها مقتل جورج فلويد، ولذلك فإن المظاهرات التي تجتاح المدن الأمريكية ليست مظاهرات ذات طابع احتجاجي محض للمطالبة ببعض الامتيازات، إنها تكاد تصل إلى حد الثورة ضد النظام الأمريكي المحافظ الذي يمثله ترامب وفريق إدارته، بل يمكن أن نصف ما يحدث بأنها ثورة السود في أمريكا لعام 2020.

تصريحات ترامب جاءت لتسعر جذوة هذه الثورة ولم تكن تصريحاته مستغربة أو غير متوقعة فهو يعبر بشكل تلقائي عما يجول في خاطره دون أدنى مواربة أو استخدام لعبارات دبلوماسية، ولا يريد أن يفهم أن الولايات المتحدة عبارة عن نسيج اجتماعي غير متجانس يضم أعراقًا وأديانًا مختلفة، فالولايات المتحدة دولة مهاجرين من شتى بقاع العالم، وهذا النسيج يحتاج إلى إدارة حكيمة تراعى شؤنه وتفهم اختلافاته، ودون إدارة كهذه سيتحلل هذا النسيج سريعًا ويتشظى إلى مجموعات عرقيه متناحرة... ولذلك فإن الاختلاف العرقي والثقافي والديني قد يكون عامل نهضة إذا أُحسنت إدارته وتوجيهه واكتساب ما فيه من قدرات ومهارات وإمكانات، وفي الوقت نفسه قد يكون عامل صراع وفناء إذا أسيء فهمه وفسدت إدارته.

ويبدو أن القدر قد أتى بترامب في لحظة تاريخية فارقة ليلقي بظلاله على هذا المشهد الأمريكي الملتهب ليذهب بأمريكا نحو المجهول، فيما يبدو وكأنه تتويج للمشهد الأمريكي الأخير الذي بدأ بالتراجع الاقتصادي أمام الصين ثم فقدان النفوذ العالمي والتخلي عن الحلفاء التقليديين ومن ثم الهزة الاقتصادية العنيفة التي أنتجتها مشكلة فيروس كورونا، ولم يكن ينقص الولايات المتحدة إلا هذا التوتر الداخلي الذي هو آخر ما يكان يتوقعه ترامب.

فكأن السماء تسقط على رأس ترامب كسفًا، كلما أفاق من ضربة أو كاد عاجلته ضربة أخرى تفقده توازنه ليعود للترنح مرة أخرى. فيا ترى أين يخبئ القدر الضربة الأخيرة لترامب التي ستسقطه وتسقط مشروعه العنصري؟