(1)
أصيب زوجي بمرضٍ جلدي، جعل مناطق واسعة من جسده تتقشر، وتغدو خشنة الملمس داكنة اللون، وتطور المرض أكثر ونال من وجهه حتى تغيرت ملامحه، حتى أن كثيرين أصبحوا لا يعرفونه عند رؤيته؛ تنقل بين الأطباء كثيراً، دون فائدة تذكر. أثَّر المرض نفسياً عليه بشكل كبير خاصة عندما أضيف إلى المرض الجلدي التهاب المفاصل الذي كاد يُقعده عن الحركة. تقبلت ما حدث مع زوجي تماماً، وذكَّرت نفسي وزوجي أن هذا ابتلاء من الله، يختبرنا هل سنصبر أم نكفر.. وأخذت أقدم له الرعاية والعناية التي يحتاجها، عدا عن مسؤوليات البيت والأبناء والوظيفة.
صبرت، وتحملت معه الكثير، تحملت عجزه وجلوسه في البيت عاطلاً عن العمل، وأخذت أدبر وأوفر قدر استطاعتي ليكفي الراتب القليل الذي أتقاضاه من وظيفتي مصروف أسرتي وعلاج زوجي، استوعبتُ عدم استطاعته الخروج لتلبية متطلبات البيت وأخذت أقوم بأدواره جميعها دون تذمر، وأضغط على أبنائي رغم صغر سنهم ليشاركوني المسؤولية، وفي الوقت ذاته أذكِّر نفسي باستمرار كيف كان يقوم هو بكل ذلك لسنوات طويلة دون مللٍ أو شكوى، فكيف لي أن لا أستوعبه الآن عندما تمكن المرض منه وضعف جسده وأصبح بحاجة لمن يرعاه ويواسيه ويخفف عنه ويغدق عليه الحب والحنان؟ وأخذت أعوِّد نفسي على جميع المسؤوليات المستجدة وأتأقلم معها، وأتحمل العصبية التي أصبحت صفة ملازمة له، والتي عزيتها إلى آلامه وعجزه عن الحركة.
عاهدتُ الله منذ أن ظهرت مشكلته هذه أن أكون خير زوجة، وأسير في ذلك على خطى أمهاتنا الأوائل، وطلبت من الله أن يتقبلني ويعينني على ما أنا فيه، ويعطيني الأجر والثواب.
كنت أسمع كثيراً من التعليقات والنصائح ممن حولي من أقارب وأصدقاء وحتى أهل، كيف تحتملين عصبيته؟ أعانك الله عليه.. مسؤولياتك كثيرة ولا معين لك.. ليت الرجال يعتبرون.. والله لو أنت من مرِضت لتخلى عنك وتركك.. أنت لا زلت صغيره في السن وبحاجة لتستمتعي بحياتك، وليس لتهدري حياتك في العناية والرعاية بشخص مريض يقابل معروفك بالقسوة والعصبية... وغيرها الكثير من العبارات التي كانت تقف كالغصة في حلقي.
قررتُ في نفسي أن أخفف علاقاتي الاجتماعية بشكل كبير والتي باتت تؤذيني، وأتفرغ تماماً للرسالة التي نذرت نفسي لها منذ البداية؛ واحتسبت أجري إلى الله.
(2)
تزوجت وأنا في الخامسة عشر من عمري، كنت طفلة لم تدرك معنى الحياة بعد.. ولكن لجمالي الأخاذ أخذ الجميع يتسابقون لخطبتي ويضغطون على والدي ليزوجني، كان يرفض لصغر سني وقلة خبرتي في الحياة، ولكن في النهاية ملَّ الأمر وزوجني لابن عمي.. بقيت في بيته خمسة أعوام كبرت خلالها ونضجت وتعلمت الكثير من فنون الحياة دون أن يحدث لدي حمل أو إنجاب، أخذتني حماتي لعدة أطباء نساء أكدوا جميعاً أنني لا زلت صغيرة وبحاجة لانتظار قليل من الوقت لينضج جسدي ويكتمل.
خمسة أعوام كنت أسمع خلالها الكثير من الكلمات الجارحة من حماتي والمجتمع من حولي.. كانت بعض نساء الحي يسألنني كلما مررت من أمامهن: ألم تحملي حتى الآن؟ افعلي شيئاً لتنجبي.. احذري، سيتزوج عليك.. ما الذي يربط الزوجين سوى الأبناء؟.. ابنتي ذهبت للطبيب الفلاني وعالجها، اذهبي له أنت أيضا... الخ.
لم أعد احتمل ضغط المجتمع أكثر من ذلك.. خاصة وأن موقف زوجي كان غير واضح أمامي، فكنت أجده مرة محباً دافئاً وأجده مرات كثيرة يتأثر بكلام والدته وأقربائه، وأخذ يغلب على معاملته لي الجفاء والقسوة، وينتقدني على كل سلوك يبدر مني، ويصرخ بي أحيانًا، وإن شاهدني أبكي، خرج من البيت وتجاهلني تماماً.. وينسى أنني صغيرة بحاجة للرعاية والحنان، وليس ماكنة تفريخ "معطوبة" لا بد من إهمالها.
أصبح موضوع الإنجاب هو محور الحياة وجميع مجرياتها في هذا العالم حتى وصل بي السأم إلى أعلى المراتب؛ ففكرت أن أدخل بعض التغيير في حياتي لأخرج من الدائرة القاتمة التي أدور داخل حدودها دون جدوى.. طلبت من زوجي أن أسجل لامتحان الثانوية العامة في ذلك العام، لأدخل الجامعة وأكمل دراستي التي منعني الزواج منها، تردد زوجي ولم يبدِ رفضاً في الوقت ذاته، أما حماتي فقد جُن جنونها.. فكيف لربة بيت أن تعود للمدارس مرة أخرى؟ بدلاً من أن أهتم بالعناية بصحتي وأدخر المال لأراجع الأطباء عساني أنجب طفلاً، أريد أن أبذر مال زوجي في شيء غير مجدٍ نهائياً.. الطامة أن زوجي وافق رأيها، ومنعني، وردد كلامها.. لم يعد بمقدوري البقاء في بيت لا أجد فيه الدفء والاحتواء الكافي.. كرهت الجمال الذي ميزني والذي غدا لعنة صبت مصائبها فوق رأسي.
تركت بيت زوجي وعدت إلى أهلي لا أريد شيئاً سوى أن أبتعد عن الضغوط التي كادت تخنقني.. تنازلت عن جميع حقوقي سوى حريتي وانفصلت عن زوجي..