وسط الخوف الذي زرعه حزب الله بين اللبنانيين كافة، فأطاعوه، أو سايروه، أو تجنّبوه. وسط المسوخ التي سمح بولادتها، فأنجب شخصيةً مثل جبران باسيل. وسط الحرب المليشياوية التي يخوضها ضد الشعب السوري؛ فيعامله كمحتل غاصب، يفتك بمصير سورية، مثل معلمه الإيراني وحليفه الروسي؛ عبر قوته المليشياوية الضاربة. وسط الخرابة التي صار عليها لبنان، بعدما حوّله هذا الحزب إلى درع بشري إيراني... إلى خرابة. حتى بلغ لبنان مرتبة الشعب الفقير، يكاد ينافس الصومال في عريه. بعد حروب انتصر فيها كما ينتصرون على البشر والحجر. بعد كل هذه "الإنجازات"، وغيرها مما يضيق الإسهاب بها هنا.. يطلع علينا الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، بخطابٍ، بمناسبة جمعة القدس، ليبشرّنا بـ"إننا اليوم أقرب ما نكون إلى القدس وإلى تحريرها"، مستبْسلاً، بطلاً، متجاوزاً "كل التحولات الدولية والإقليمية وكل الفتن"...
حسناً. من يصدّق بشرى الأمين العام هذه؟ "بيئته" الضيقة، المذهبية؟ بالتأكيد لا. الحديث في هذه البيئة يدور حول الابتهاج بكل هذه "الحقوق" التي نالتها الطائفة، بفضل حزب الله. وسواء كانت "جماهير طوائف"، أو كادرات مشغولة بحرب سورية، فإن العواطف السياسية لديها غير موجهة لفلسطين أو الفلسطينيين. أحياناً، ترضى هذه البيئة عن "حماس"، أو "الجهاد الإسلامي"، عندما تميل رياحهما نحو طهران. أما باقي ما تبقى، فهي معادية للفلسطينيين، ومن موقع مذهبي صِرف، من موقع عنصري غالب، غير مهتمة بالفلسطينيين إلا من باب صناعة أجنحةٍ مواليةٍ للحزب، كما هو حاصلٌ مع بقية الطوائف اللبنانية. بيئة أصابها جنون العظمة صحيح، ولكن لأسبابٍ لا تتعلق بفلسطين أو القدس.
أم يصدقه خصومه من السياسيين اللبنانيين؟ الذين لا يتجرّأون على مخالفته. ولكنهم في دواخلهم لا يعطون أية أهمية لبشرى كهذه. في مكانٍ ما، ولأنهم، مثله، كل واحد منهم لديه الطَوْطَم (رمز مقدس) المناسب لطائفته، و"يناضلون" من أجل أن تصدّقهم جماهيرهم الطائفية، فيهمسون عن تلك البشرى: "إنما هي للسياسة لا غير..."؛ أي أنها لا تبني شيئاً، ولا تخطط، ولا ترى.. بل تحمي زعامتها برسوم طَوْطميّة. رسوم ضعيفة أمام تلك التي ابتدعها حزب الله، لكنها شبيهة، لا تخطئها أُذن.
أم يصدّقه حلفاؤه من السياسيين اللبنانيين أنفسهم؟ وأنجحهم، جبران باسيل، بلغ مراميه؟ يغرَق في سوق الفساد، في خمره، ولم يبلغ الثمالة بعد؟ يبتزّ الحزب بأغلى ما يملكه، السلاح، بغية القبض على ما تبقى من موارد الدولة المُستباحة؟ والباقون.. كلٌ على طريقته، وبحسب إمكاناته؟ هل يصدّق كل هؤلاء بأننا "اليوم أقرب ما نكون إلى القدس وإلى تحريرها"؟ أم يصدقه رعاته، الإيرانيون؟ المنْكَبون على تقطيع العالم العربي وتخريبه؟ الداخلون مع الأميركيين في كباش قوة وهيمنة؟ الباحثون في القدس عن خرق لحصار الأميركيين وعقوباتهم؟ المحاربون من أجل إبقاء احتلالهم سورية، وسيطرتهم على العراق، المتنافسون مع الروس والأميركيين على النفوذ في كل منهما؟ يعني: قوة احتلال لدول عربية بعينها، بأبشع من الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، تحلم وتقاتل في الآن عينه من أجل أن تكون "اليوم أقرب إلى القدس"؟
أم يصدّقه ضحاياه المباشرون من الشعبين السوري واللبناني؟ والسوري تحديداً، حيث أخذ الحزب راحته، بإذن من بشار الأسد، بل برجاء منه، بأن يقتل ويهجّر ويفرز مذهبياً.. بالشعب السوري، ليقول بعد ذلك إنه "انتصر على الإرهاب"؟
أم يصدّقه "أصدقاؤه" من الحلقة اليسارية الأعرض، الذين أقاموا القيامة من أجل محاكمة العميل الإسرائيلي، عامر فاخوري، ونظموا الاعتصامات والتظاهرات، ومن منطلق "مقاوِم، ممانع"، مؤيد بجوارحه للحزب؟ وكان "أنجح" حلفاء الحزب يريد العكس، أي "تحرير" العميل وإرساله الى أميركا، وطنه الثاني؟ والذي تقرَّر في النهاية إطلاق سراحه، بضغط مباشر من هذا الحليف المسخ إياه؟ وفي عمليةٍ ملتبسة، ختَمها الأمين العام للحزب بخطاب إسكاتٍ لهؤلاء الأصدقاء، وبإعلانه تفضيله هذا الحليف على تلك الحلقة اليسارية التي لا تفيده بشيء مع الأميركيين، ومع سواهم؟ هل ما زالت هذه الحلقة تصدّقه؟
من المغْري القول إن الوحيدين الذين يصدّقون هذه البشرى هم المهاجرون، الذين ابتعدوا عن الميدان، ولم يحفظوا سوى أن حزب الله حرّر الجنوب، وأنه حزب النضال من أجل تحرير فلسطين. ولكن معرفة بسيطة بـ"بيئة" أولئك المهاجرين لا تضمن التصديق. هي بيئةٌ واسعة، تعرف الدنيا جيداً، ولا تنقصها المعلومة. وينطوي خيارها للحزب على حيثياتٍ مذهبيةٍ لا تخطئ. الحزب منح أبناءها "الهوية" الشيعية. وهم متمسّكون بها، يحسبونها إكليلاً من الغار على جبينهم. يتصوّرون أن هذه الهوية تعطي معنىً إضافياً، تفضيلياً، لـ"هويتهم" الأجنبية التي لم يهضموها، أو هي لم تهضمهم.
نحن إذن بإزاء حقل واسع من عدم التصديق. مع أن الصدق، "الوعد الصادق" هو من أركان حزب الله، من نقاط قوته "الناعمة". هو دليلٌ على تفوّقه "الأخلاقي"، الموازي لـ"التفوّق" الآخر.
إذا كان لا أحد يصدّق هذه البشرى، فلماذا يردّدها أمين عام حزب الله؟ هل قالها لأن المناسبة تفرض نفسها، ومنذ سنوات، وحسب؟ "آخر جمعة من شهر رمضان المبارك"؟ أم لأن الخميني، المقدس، مؤسس الدولة الإسلامية، نطق بها ذات يوم، فوجب تلاوتها، كما الصلاة، في آخر جمعةٍ من رمضان؟ أم لأن تكرارها يعطي معنىً، ولو عتيقاً، للحزب؟ يكسبه شرعية؟ يخرجه من مآزقه؟ أم لأن طهران بحاجة اليوم إلى "تحرير القدس" و"محو إسرائيل من الوجود"، لتخرج من طوق الأميركيين؟
أما نقطة القوة الوحيدة لهذه البشرى، فهي أن نصر الله لم يحدِّد بدقة متى يأتي ذاك اليوم القريب؟ أو، بكم من الأيام بتنا "أقرب ما نكون عن القدس"، وإلى "تحريرها"؟ أم علينا ألا نحسب بالأيام، إنما بالأشهر، وربما بالسنوات، أو العقود.. أو حتى ظهور المهدي. وهذه لفْتة "ذكية" أخرى، تعفي صاحبها من السؤال عن تاريخ هذا الاقتراب من تحرير القدس، وتعطيه كامل الحرية في ممارسة عكس ما يفضي إلى القدس وتحرير كامل التراب.
فهو لم يتورّط، كما حليفه "الأنجح"، جبران باسيل، الذي "فاز" بوزارة الطاقة، منذ عشر سنوات؛ وفي خضم نشوته بهذا النجاح، بشّرنا يومها بأن الكهرباء ستكون "24 على 24 ساعة"، في أواسط 2020. أي بعد يومين .. فيما التقنين تجاوز حدوده الآن، وخرج الناس يتظاهرون ضده في العتَمة الدامسة. نصر الله لم يحدّد التاريخ، وباسيل حدّده. نصر الله حمى نفسه من النقد والسخرية. أما باسيل، فعرَّضها لهما. كان عليه أن يتعلم كيف يحمي وعوده من السؤال.