لا تزال الذاكرة الفلسطينية حية بتفاصيل المسار الفلسطيني لدى المحكمة الجنائية الدولية الدائمة، فقبل فترة زمنية وجيزة رفضت الدائرة التمهيدية طلب المدعية العامة النظر في ولاية المحكمة الإقليمية تحت ذريعة عدم الامتثال لشرط حجم التقرير، ما دفع المدعية العامة لتعديل تقريرها، وما يسفر عنه تلقائيًا تعديل المدة القانونية للرد على طلب المدعية العامة. وقبل أيام قليلة، تفاجئنا الدائرة التمهيدية في المحكمة الجنائية -مرة أخرى– بتوجيه اختبار بسؤال واحد إجباري غير اختياري لقيادة السلطة الفلسطينية، تملها فيه للعاشر من حزيران 2020 لتقديم إجابة واضحة بشأن تأثير اعلان الرئيس الفلسطيني محمود عباس التحلل من الاتفاقيات الموقعة بين منظمة التحرير الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي وأمريكيا في خطوة متأخرة جدا للاحتجاج على مشروع الضم الاستيطاني الذي يشكل جريمة بموجب نظام المحكمة.
المسار والملف الفلسطيني لدى المحكمة، حتى اللحظة تخلله أمور غير مسبوقة وفريدة من نوعها في عمل المحكمة، ما يثير الكثير من الفضول لدى المتابعين والمهتمين، فهل هذه الأمور غير المسبوقة، مدفوعة برغبة المحكمة والمدعية العامة من قبلها بذل أقصى درجات الاحترافية والموضوعية ووصولًا لتقديمها حتى على الوصول لغاية المحكمة ذاتها المتمثلة بتشكيل الردع القانوني لوقف المزيد من ارتكاب الجرائم؛ أم أنها تندرج في إطار البحث عن مبررات لتعطيل أو حتى إيقاف المسار الفلسطيني لدى المحكمة في سعي لاستمرار اتساع رقعة الحصانة التي يتمتع بها القادة والجنود الإسرائيليين، أم أن المحكمة تخشي أن يخرج عملها عن دائرة القارة الافريقية السوداء، وتحرص على أن تتوقف عند حدودها الجغرافية، وعدم الانتقال إلى قارات أخرى.
مهما كان من شأن مبررات الإطالة غير المبررة والطلبات والأسئلة غير مفهومة القصد التي تعج بالمسار الفلسطيني لدى المحكم الجنائية الدولية؛ فإن النتيجة الواقعية الراهنة تتمثل في استمرار إنكار العدالة لضحايا الانتهاكات الجسيمة والجرائم الدولية، وإنكار حقهم في الوصول إلى إنصاف قانوني وقضائي عادل، ومع ذلك لا سبيل أمامنا كفلسطينيين إلا الاستمرار في العمل وتخطي التحديات واحتوائها والتصميم والتمسك بمسار العدالة الدولية وعدم ربطها على الإطلاق بأي مسار تفاوضي مهما كانت الظروف.
مضمون السؤال غير بريء:
يطرح سؤال الدائرة التمهيدية بشأن تأثير إعلان الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلغاء الاتفاقيات الموقعة بين منظمة التحرير الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي وأمريكيا، العشرات من علامات الاستفهام والاستعجاب على الحد السواء، ما يجعلنا نشعر تعمد المحكمة بإدخال الفلسطينيين في لعبة تشبه لحد بعيد لعبة "حل الكلمات المتقاطعة" تتجاوز الهدف من أهمية إدراك المحكمة وقضاها وعملهم على تطبيق أمين لنظام روما المنشئ للمحكمة.
جاء سؤال/ طلب الدائرة التمهيدية، على الرغم من وضوح المركز القانوني الدولي، فإنه عملًا بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 67/19 الذي تم تبنيه في 29 نوفمبر 2012، تولت فلسطين وضع "دولة مراقبة غير عضو" في الأمم المتحدة ، مما أتاح لها القدرة على الانضمام إلى المعاهدات الدولية مثل نظام روما الأساسي من خلال صيغة "جميع الدول"، ونتيجة لذلك، أودعت فلسطين وثيقة انضمامها إلى الأمين العام في 2 كانون الثاني / يناير 2015، وأصبحت الدولة الطرف 123 في نظام روما الأساسي، وبالتالي يجوز للمحكمة ممارسة اختصاصها على أراضيها عملا بالفقرة الثانية من نص المادة 12.
كما يمكن استنتاج أن "فلسطين" تفي بالشروط المعيارية لإقامة الدولة مبادئ وقواعد القانون الدولي ذات الصلة، وعلى رأسها مبادئ قانون الاحتلال الحربي، التي تعتبر المحتل صاحب سلطة فعلية وليس قانونية، وأن السيادة تبقي للدول المحتلة أراضيها، أي أن ممارستها لسيادتها مقيده ليس إلا، وهذا لا يمنع من ممارسة المحكمة لصلاحياتها وسلطاتها.
بشكل واضح ودقيق، أكد تقرير المدعية العامة المقدم إلى الدائرة التمهيدية أن مكتب المدعية العامة يرى أنه لأغراض النظام الأساسي، يمتد اختصاص المحكمة الإقليمي بموجب المادة 12 (2) (أ) إلى الأرض الفلسطينية المحتلة، التي تغطي الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، وغزة. واعتمد الادعاء في المقام الأول على قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي تعكس آراء المجتمع الدولي وأكدتها هيئات ومؤسسات دولية متعددة.
كما أكد تقرير المدعية العامة أنه ينبغي للمحكمة أن تتعامل مع مسألة ترسيم حدود الأراضي الفلسطينية المحتلة كما هي موجودة حاليًا وظلت موجودة منذ عام 1967، وفقًا لنهج الامم المتحدة، ما يجعل السؤال بشأن مكانة اتفاقيات أوسلو (إعلان مبادئ عام 1993 بشأن ترتيبات الحكم الذاتي المؤقتة ("DOP" أو "Oslo I") ، واتفاق غزة - أريحا لعام 1994، والاتفاقية المؤقتة لعام 1995 ("Oslo II")، وبروتوكول الخليل لعام 1997، ومذكرة واي ريفر لعام 1998 ومذكرة شرم الشيخ لعام 1999، والاتفاقيات الأمنية) التي أعلن الرئيس عباس التحلل منها بخاطبة بتاريخ 19 مايو/ أيار 2020 غريب ويثير الكثير من الدلالات.
من بين ذلك، أن نظام روما الأساسي – بخلاف بعض المعاهدات الدولية – لم يحدد المتطلبات التي يجب على الكيان استيفائها ليصبح دولة طرفًا؛ وبناء على ذلك، يجب قراءة المادة 12 (1) اقترانا بالمادة 125 (3)، التي تتيح العضوية لـــ "جميع الدول" بإيداع صكوك الانضمام لدى الأمين العام، حيث تعكس المادة 125 (3) اعتماد صيغة "جميع الدول" لتحديد وضع الأطراف، أي كفاءة الدولة في الانضمام إلى نظام روما الأساسي، أذن الصيغ القانونية، المقترنة بوصف المراكز القانونية لدول الأطراف لم تأتي من قريب أو بعيد على مسألة ارتباط الكيان العضو باتفاقيات أو تحلله منها مع كيان آخر.
وفق لذلك قبلت عضوية فلسطين في المحكمة، ليس هذا فحسب بل انتخبت قبل أشهر قليلة لعضوية المكتب التنفيذي لجمعية الدول الأعضاء في نظام روما، وبالتالي إعادة الحديث عن مكانة وتأثيرات تحلل السلطة الوطنية الفلسطينية من اتفاقيات أوسلو، يتعارض بشكل واضح مع مبدأ الفعالية للسماح لأي كيان بالموافقة على شروط نظام روما الأساسي ومن ثم الانضمام إلى المحكمة، ثم إنكار النتيجة الطبيعية لعضويته في وقت لاحق -ممارسة اختصاص المحكمة وفقا للنظام الأساسي؛ فإنه بمجرد أن تصبح دولة طرفًا في النظام الأساسي، يجوز للمحكمة ممارسة اختصاصها على أراضي دولة طرف و / أو على رعاياها عملًا بالمادة 12 (2). وذلك لأن "الدولة" لأغراض المادتين 12 (1) و 125 (3) هي أيضًا "دولة" بموجب المادة 12 (2) من النظام الأساسي.
كما أن المدعية العامة، كانت قد توصلت إلى استنتاج رئيس أن اتفاقيات أوسلو، لا تمنع ممارسة اختصاص المحكمة، لكون الالتزام بمساءلة وملاحقة أي انتهاك لاتفاقيات جنيف لعام 1949 يحتل أولوية على الالتزامات المتضاربة الأخرى الناشئة عن معاهدة ثنائية.
من نافلة القول، التذكير أنه لا يمكن إبرام اتفاقية خاصة بالمخالفة لقاعدة دولية قطعية وآمرة، ولا يمكن لمعاهدة ثنائية أن تسمو على معاهدة شارعه، وبالتالي فالسؤال ليس في محله وإجابة عنه لن تضيف جديد للحالة الواقعية، وينبغي على قضاة الدائرة التمهيدية عدم إعادتنا لمربع النقاش الأول الذي أشبع بما فيه الكفاية في عهد المدعية العامة الحالية والمدعي العام الأسبق للمحكمة.
توقيت السؤال غير بريء:
يتزامن سؤال الدائرة التمهيدية مع اتساع رقعة الحملة الإسرائيلية الأمريكية الشرسة بحق المحكمة الجنائية وبشكل خاص بحق المدعية العامة وفريق عمل مكتبها، وذلك بعد أن فشلت الإجراءات الإسرائيلية بثني المدعية العامة عن الاستمرار بتقديم طلبها المقدم للدائرة التمهيدية للمحكمة لفحص ولايتها الإقليمية للمحكمة على الأراضي الفلسطينية، ما قد ينتج عنه تكرار نفس سيناريو ما حدث مع القاضي غولدستون، رئيس بعثة الأمم المتحدة لتقصى الحقائق بشأن النزاع بقطاع غزة، عندما أعلن تراجعه عن تقريره.
ويأتي هذا السؤال ليتقاطع زمنيًا مع بدء تنفيذ ما بات يعرف إعلاميًا باسم (صفقة القرن) فتباشر حاليًا السلطات الإسرائيلية البدء التنفيذ العملي لخطة ضم الأقاليم المحتلة لدولتها، ما أدى بالأساس لإعلان الرئيس محمود عباس التحلل من اتفاقيات أوسلو والاتفاقيات الأمنية اللاحقة لها، وذلك في خطوة تنفيذية لما قرره المجلسان الوطني والمركزي الفلسطيني بشأن انتهاء المرحلة الانتقالية والتحول من مرحلة السلطة إلى مرحلة الدولة.
الأخطر، أن هذا السؤال / الطلب يأتي في إطار قيام الدائرة التمهيدية دراسة طلب المدعية العامة بشأن ممارسة الاختصاص الإقليمي للمحكمة، فإن الرأي القضائي الذي سوف يصدر عن الدائرة التمهيدية فيما يتعلق بمسألة الولاية الإقليمية والجغرافية للمحكمة، سوف يترك أثر وبشكل ملموس على مدى مضي المدعية العامة للمحكمة في إجراءاتها، على الرغم أن خطوة المدعية العامة بالتوجه للدائرة التمهيدية لسؤالها عن الاختصاص الإقليمي للمحكمة، قد جاءت بعد قرابة خمس سنوات من عملها في الدارسة التمهيدية، حيث إنها وفق للإحالة المقدمة في عام 2018 لم تعد مطالبة بالحصول على إذن من الدائرة التمهيدية لفتح تحقيق، بموجب المادة 15 (3) من النظام الأساسي، لوجود قناعة لديها بأن الشروط المنصوص عليها في المادة 53 (1) من النظام الأساسي تم استيفاؤها، مع ذلك بررت المدعية العامة هذه الخطوة لضمان تسهيل السلوك العملي لتحقيقها عن طريق وضعه على أساس قانوني سليم.
خلاصة القول؛ بعيدًا عن مضمون الإجابة الإجبارية لقيادة السلطة الفلسطينية على سؤال المحكمة، فإن الحكمة تقتضي أن يستشار أهل الاختصاص والخبرة، وألَّا تقتصر الاستشارة على أكاديميين بل يجب أن تطال ممارسين لديهم خبرات وتجارب متعددة للعمل مع وإلى جوار المحكمة؛ كما يجب أن يتجاوز الرد الفلسطيني البحث عن مسألة اختصاص الدائرة التمهيدية بتوجيه مثل هذا السؤال أو الطلب، حيث أنه كما يجب الإقرار أن للدائرة التمهيدية وفق لمادة 103 من نظام روما الأساسي، يجوز للدائرة التمهيدية، إذا رأت ذلك مناسبًا، أن تسمح للكيانات والضحايا المحالين بتقديم طلبات، ويمكن للدائرة أيضًا أن تسمح بتقديم الطلبات من الأطراف المهتمة الأخرى وذات الصلة، وكذلك أصدقاء المحكمة، بما في ذلك الدول.
إن الجهات الرسمية الفلسطينية مجبرة على إعطاء تفسير قانوني لما صدر عن الرئيس عباس من جهة دون أن يلحق ضررًا على المسار الفلسطيني أمام المحكمة الجنائية الدولية، والتأكيد على التحلل من اتفاقيات أوسلو أنه لا يمكن تفسير على أنه تنازل فلسطيني عن اختصاص المحكمة، والتأكيد على حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره السياسي والاقتصادي وبناء الدولة خاصة في ضوء التحلل الفعلي الإسرائيلي من اتفاقيات أوسلو.
الرد الفلسطيني ينبغي أن ينطلق من بيان الهواجس والتخوفات تجاه سؤال الدائرة التمهيدية للمحكمة الجنائية، بوصفه قد يكون حلقة جديدة من حلقات تسييس لقضايا الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وفي ذات الوقت عدم إغفال أن السؤال قد يكون برئ وهو مجرد سؤال إجرائي يدور في فلك سعي المحكمة والمدعية العامة من قبلها لإيجاد حل لمشكلة تأكد من قدرتهما ممارسة صلاحيتها واختصاصها على أرض الواقع بموجب المادة 12 (2) (أ) تشمل الأرض الفلسطينية المحتلة، أي الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، وغزة، حيث يحتل ذلك أهمية في رأي المحكمة كونه سوف يسمح بدراسة قانونية وقضائية لقضايا مهمة وأساسية قبل الشروع في التحقيق الابتدائي، وأنه سوف سيسهل الحكم المبكر على السلوك العملي للتحقيق الذي قد تجريه المدعية العامة عن طريق تحديد النطاق المناسب لواجباتها وسلطاتها فيما يتعلق بالوضع الراهن، وفيما يتعلق بشرعية طلباتها للتعاون من المجتمعات والدول المعنية.