هناك من الأسباب التي دفعت أكثر من عالم وداعية في مصر لأن يعلق على العدوان الصهيوني في حرب حزيران/ يونيو 1967 ضد مصر، فلا يسميه عدواناً وجريمة، وإنما يعتبره عقاباً إلهيّاً أُنزل بجمال عبد الناصر، بسبب ما ارتكب بحق الإسلاميين، من سجن وتعذيب وقهر.
وبغض النظر عن صوابية أو عدم صوابية ما يمتلئ في قلب هذا العالِم أو ذاك من حقد، وحتى لو وضعنا السياسة جانباً، وسلمنا جدلاً بوجاهة هذه النظرة من زاوية ما، فكيف يحق لها أن تتجاوز، أو تطرح إلى الخلف، العدوان الصهيوني ونتائجه الخطيرة على القدس والمسجد الأقصى وفلسطين، وأجزاء غالية من أرض مصر، وأرض سورية، وأرض الأردن؟ وها قد مضى على تلك النتائج 53 عاماً، ودخلنا في مرحلة ضم القدس وأغلب الضفة الغربية للكيان الصهيوني.
فالسؤال: هل يحق، أو هل من الصواب السياسي أو الديني، أو الوطني، أو العروبي أو الإسلامي، أن يُضحى بالقدس وفلسطين، وبمصير أمة لعشرات السنين، أو أن يغمض الطرف عنه مقابل تلك النظرة، مهما بلغ التسليم بوجاهتها من حيث أتت؟
جمال عبد الناصر تلقى الضربة القاسية، وأصبح بعد ثلاثة أعوام في ذمة الله. أما الأرض التي احتُلت في ذلك العدوان، ولا سيما القدس والمقدسات وفي مقدمتها المسجد الأقصى، فقد استمرت تحت الاحتلال وتحت الاستيطان والتهويد والضم.
كذلك فإن الراحة النفسية الممزوجة بالشماتة والحقد، والتي دفعت إلى تغليب تلك النظرة، تنفست الصعداء إلى حين، ثم ولّت ولم يبق منها شيء، وبقي الاحتلال الصهيوني، وبقي خطر تهويد فلسطين وهدم الأقصى على الأجندة.
لو يُحاسِب ذلك النهج نفسه على ضوء النتائج التي ترتبت على العدوان الصهيوني في حرب حزيران 1967، وذلك بالنسبة إلى الأرض الفلسطينية وإلى الشعب الفلسطيني، كما إلى القدس والمسجد الأقصى والحرم الإبراهيمي في الخليل، لوجد موقفه يساوي صفراً في السياسة، وفي الفقه، بل خطره على وعي الأمة بعيد المدى، خصوصاً إذا لم يقوّم ويصحح، أو إذا تكرس نهجاً يطبق حتى الآن.
وبالفعل، نجد هذا النهج مع اختلاف التفاصيل والزمان والمكان والشخوص وأشكال الصراع، ما زال يعيد إنتاج نفسه اليوم. كيف؟
محصلة صراعات العقد الأخير (2011-2020) انتهت بمواجهة أمريكية- إيرانية، ومواجهة إسرائيلية- إيرانية، وبامتداد يشمل حلفاء إيران في محور المقاومة، وأساساً يشمل في الآن نفسه مواجهة أمريكية- إسرائيلية مباشرة ضد المقاومتين؛ حزب الله في لبنان، وحماس والجهاد والجبهة الشعبية في قطاع غزة- فلسطين. وهذه المواجهة من الشدة والعمق والجدية تقف على حدود حرب إقليمية واسعة المدى والنتائج.
فمن وجهة نظر قادة أمريكا والكيان الصهيوني، تُعتبر إيران العدو رقم 1، والخطر رقم 1 في هذه المرحلة على الكيان الصهيوني والنفوذ الأمريكي في "المنطقة". فإيران أصبحت تمتلك قدرات وبرامج صاروخية بالستية وتكنولوجية متعددة وعلمية، وتجاوزت كل الخطوط الحمر التي تستوجب نزعها منها لخطورتها على الكيان الصهيوني، أو على تفوقه العسكري في المنطقة.
وإيران من وجهة نظر قادة أمريكا والكيان الصهيوني تخطت كل الخطوط الحمر الأمريكية- الصهيونية في تسليحها ودعمها لكل من المقاومتين اللبنانية والفلسطينية، حتى أصبحتا تهددان العمق الصهيوني (ولا سيما المقاومة اللبنانية لأسباب تتعلق بالجغرافيا). كما اعتبرت إيران متجاوزة للخطوط الحمر في دعمها للجيش السوري في زرع الصواريخ البالستية في سوريا، بدليل الغارات الصهيونية المتكررة على مواقع تمثل هذا التجاوز للخطوط الحمر.
كان الكيان الصهيوني وأمريكا وأوروبا في الماضي يشنون الحروب ضد أية محاولة يشتم منها الاقتراب من خط أحمر، ولو من مسافة "عشرة كيلومترات". فعدم وقوع حرب، ولنقل منذ خمس سنوات، سواء أكان على إيران أم حزب الله أم قطاع غزة، لا يمكن أن يفسّر سوى الخوف من عدم الانتصار فيها، كما الخوف من الخسائر التي يمكن أن تلحق في الداخل الصهيوني، أو في الجيش والبنى التحتية.
في قراءة موازين القوى، يمكن اعتبار أنها دخلت لأول مرة في تاريخنا المعاصر مرحلة "شبه التوازن الاستراتيجي". وتتشكل سمات هذه المرحلة، في كل صراع، بعد فشل القوة المسيطرة المتفوقة في القضاء على القوى المقابِلة، التي تكون في الدفاع الاستراتيجي مقابل الهجوم الاستراتيجي. فتصبح القوّة المتفوقة بحاجة إلى "هدنة" لكي تعيد تنظيم قواها استعداداً لشنّ الهجوم الاستراتيجي من جديد، فيما القوّة المقابلة حين تبدأ الدخول في مرحلة الإعداد لهجوم استراتيجي تصبح بدورها بحاجة إلى "هدنة". (صلح الحديبية في التاريخ الإسلامي يمثل مرحلة شبه التوازن الاستراتيجي، التي يحتاج فيها الطرفان إلى الهدنة استعداداً للهجوم الاستراتيجي).
لذلك هذه المرحلة في تاريخ كل الصراعات/ الحروب، تعتبر من أخطر المراحل على مصير الصراع، لأن الطرف الذي سيتمكن من الانتقال إلى الهجوم العام وينتصر فيه، يقرر مصير الصراع لعشرات السنين، إن لم يكن نهائياً.
من هنا، فإن أمريكا والكيان الصهيوني يعدان لهجوم عام استراتيجي. ومن أجل ذلك، بالإضافة إلى الإعداد الذاتي للحرب، يقومان بحصار إيران، لا سيما في السنوات الثلاث الأخيرة، حصاراً خانقاً، يأملان من خلاله عرقلة انتقالها إلى الهجوم العام، بل تجريدها من السلاح، وإعادتها إلى ما دون الدفاع الاستراتيجي. وهذا الهدف ينسحب في الآن نفسه على سوريا والمقاومتين في لبنان وفلسطين.
في أغلب التجارب التاريخية للصراعات التي وصلت إلى مرحلة شبه التوازن الاستراتيجي؛ تكون النتيجة في مصلحة القوى الصاعدة المنتقلة من الدفاع الاستراتيجي إلى شبه التوازن الاستراتيجي. ولكن في حالات استطاعت القوى المنتقلة من الهجوم الاستراتيجي إلى شبه التوازن الاستراتيجي، أن تستعيد المبادرة، وتتمكن من إنزال الهزيمة بخصمها.
المهم أن شبه التوازن الاستراتيجي الذي تعيشه المنطقة العربية- الإيرانية- التركية، أو في الأدق، الذي يواجهه الصراع الدائر بين إيران ومحورها، وأمريكا والكيان الصهيوني، هو أخطر مرحلة عرفتها القضية الفلسطينية والعرب والمسلمون، منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى إلى عهد قريب، لأن نتائج هذا الصراع ستقرر مصير القضية الفلسطينية، والوضع العام في المنطقة لعشرات السنين، وذلك إذا ما غلبت فيه أمريكا والكيان الصهيوني لا سمح الله. أما إذا فشلت أمريكا والكيان الصهيوني، لا سيما حرباً، أو في الإقرار بالأمر الواقع، وتركت الأمور تتقدم كما حدث في السنوات الماضية، فإن الكيان الصهيوني سيصبح جاهزاً أمام انتفاضة تفرض الانسحاب من الضفة والقدس.
يرى البعض أن مصير هذا الصراع قد يكون بداية الطريق لإنهاء الكيان الصهيوني، فلأول مرة منذ مئة عام تتوفر شروط في ميزان القوى لتغيير موازين القوى التي تقررت في البلاد العربية بعد الحرب العالمية الأولى، فالثانية.
لذلك يا للهول إذا لم نتنبّه إلى خطورة النهج الذي دفع ببعض العلماء، كما مر في مقدمة هذه المقالة، أن يتكرر تغليب ما يحملونه من عداء مذهبي أو سياسي لإيران ومحور المقاومة، على الموقف ضد أمريكا والكيان الصهيوني. فلا بد من إدراك صحيح لخطورة الهيمنة الصهيونية- الأمريكية على فلسطين، وعلى منطقتنا التي تشكل قلب المصير العربي- الإسلامي.
فكما نتج عن عدوان حزيران 1967 على مصر وسوريا والأردن، ما حلّ ويحلّ في القدس وفلسطين من تهويد ومصادرة، فإن نتائج الصراع الدائر الآن، إذا لم تهزم أمريكا والكيان الصهيوني، ستكون وخيمة، بما لا يقاس مع ما حدث في الماضي.
صحيح أن من يحملون هذا النهج في هذه الأيام كما في السابق، لا يملكون غير البُعد المعنوي في التأثير في مصير الصراع، وصحيح أن كل الدلائل والمعطيات لما حدث في ذلك التطور (الانقلاب) الاستراتيجي في موازين القوى تشير إلى هزيمة أمريكا والكيان الصهيوني، ولكن لماذا هذه القوة المعنوية على تواضعها، في المعركة، لا تتعلم من التجربة المريرة؟ ولماذا لا تعطي زخماً من أجل فلسطين والأمة العربية والإسلامية، ومستقبلهما؟ فما تفعله أمريكا والكيان الصهيوني في القدس والمسجد الأقصى وفلسطين اليوم، لا يسمح لأحد أن يخطئ في عدم الوقوف ضد أمريكا والكيان الصهيوني في هذا الصراع التاريخي الاستراتيجي.
وقد علّمت التجربة أن خيار ضد الطرفين يعني الخيار الصفري أو اللاخيار، أما الخيار ضد أمريكا والكيان الصهيوني، فلن يخطئ أبداً.