يزداد قطاع غزة فقرا مع إشراقة كل صباح، تضمحل فيه الطبقة المتوسطة، وهي الطبقة التي تلعب دورا مهما في حفظ التوازن والانسجام للمجتمع السليم، وتتضخم فيه شريحة الفقراء والمعوزين، بحيث أصبحت هي الأغلبية. جميع التقارير المكتوبة الصادرة محليا ودوليا تؤكد أن أكثر من ثلثي سكان قطاع غزة هم فقراء وغير قادرين على توفير الحد الأدنى من متطلبات العيش الكريم.
كذلك فإن نسبة كبيرة ممن يعملون بأجور منخفضة يندرجون ضمن شريحة الفقراء. هذه التقارير تصدقها الشواهد على الأرض من انتشار مظاهر التسول وبروز أشكال جديدة من الانحرافات الاجتماعية والجرائم الجنائية، وانخفاض نسب الزواج وارتفاع معدلات الطلاق خاصة بين المتزوجين حديثا وارتفاع نسب التسرب من التعليم المدرسي والجامعي، ناهيك عن التنامي الكبير في مفاهيم وسلوكيات التطرف ورفض الآخر.
لا شك أن الحصار المفروض على قطاع غزة والحروب المتعددة هي أسباب أساسية لهذه الأوضاع المأساوية، كذلك التراجع الكبير في الاستثمار الخاص والمؤسساتي وتقلص الدعم الدولي للمؤسسات الأهلية والدولية العاملة في قطاع غزة، وكذلك هجرة رأس المال المحلي والكفاءات البشرية.
لكن هذا لا ينفي أن برامج الدعم الإغاثي المنفذة في قطاع غزة منذ سنوات لم تنجح في تخفيض نسبة الفقر أو حتى تجميدها. هذه المقالة تفترض أن حجم المساعدات النقدية والعينية التي دخلت إلى قطاع غزة، مضافة إليها الإيرادات المحصلة محليا كبيرة ... كان بالإمكان توظيفها بشكل أفضل بكثير. قبل الدخول في قلب الموضوع ، لا بد من الإشارة إلى الجدل الذي يدور أحيانا بين " الإغاثي والتنموي" وهو جدل في معظمه غير علمي، ففي الواقع العلمي والعملي لا فصل بينهما على الإطلاق، فجميع التدخلات مهما كانت تجمع بين البعدين الإغاثي لسد احتياج آني والتنموي لمواجهة احتياج مستقبلي. فإعطاء سمكة ضروري للحصول على بروتين و طاقة تمكن من تعلم و ممارسة صيد السمك لاحقا. وحصول الطفل على ثلاث وجبات غذائية يوميا ضرورة لبناء جسم وعقل سليمين. وكذلك بناء مسرح يوفر آلاف فرص العمل ومداخيل نقدية للعاملين في بنائه.
في حالة قطاع غزة كما هي معروفة للجميع، كان من الضروري البحث عن تدخلات تحقق البعدين الإغاثي و التنموي بشكل متوازن. على سبيل المقارنة، يمكن بسهولة ملاحظة الفرق الهائل من حيث الآثار التنموية و الاستدامة بين مشروعي تأهيل شارع صلاح الدين و طريق الكورنيش، اللذين غيرا شكل وقلب قطاع غزة وبين مشاريع الزواج للشباب التي خلقت مشاكل اجتماعية غير متناهية. المشاريع الاغاثية وجدت كي تكون مؤقتة و مخصصة لشرائح ضعيفة جدا و لا يمكن لها أن تشكل بديلا عن التدخلات الاخرى.
في هذا المقال سأقدم مثالا على الآثار التنموية التي يمكن تحقيقها بضخ مبلغ 30 مليون دولار شهريا في تدخلات تنموية ذات تأثير طويل الأمد. هنا بعض المقترحات، على سبيل المثال لا الحصر:
• بناء المدارس: قطاع غزة يعاني نقصا بمائة مدرسة بسبب الحصار و منع دخول مواد البناء لسنوات طويلة، ما سبب الازدحام الهائل في الصفوف المدرسية، كذلك هناك حاجة لبناء 15-20 مدرسة جديدة سنويا لمواجهة النمو السكاني العادي. متوسط تكلفة بناء مدرسة هو مليون دولار. مع ضخ 30 مليون دولار شهريا يمكن بناء20 -25 مدرسة جديدة شهريا ( 220 مدرسة سنويا).
• رصف الطرق: مئات الكيلومترات من الطرق الرئيسة و البلدية و الزراعية ما زالت بحاجة لرصف و تأهيل و تحسين. متوسط التكلفة لرصف طريق 1 مليون دولار لكل كيلومتر واحد. بتخصيص 30 مليون دولار شهريا، يمكن رصف 20-25 كيلومتر شهريا أي 220 كيلو متر سنويا. هذا كفيل لوحده بتغيير وجه و قلب قطاع غزة. رصف و تأهيل الطرق أحد معالم التحضر و يقلل التلوث و يحسن الصحة العامة و يعزز النشاط الاقتصادي و من ضرورات التنمية المستدامة.
• تنظيف و تجميل و زراعة شاطئ بحر قطاع غزة: هذا المشروع لا يقل أهمية عن بناء المدارس، هذا المشروع يعني تخصيص مناطق خضراء و حدائق صغيرة على شاطئ البحر من بيت حانون حتى رفح مع إزالة التعديات و المخلفات، بما يحول طريق البحر من مناطق لرمي النفايات و مخلفات البناء، في معظمه إلى حديقة خضراء على امتداد قطاع غزة . يمكن توظيف آلاف الشباب في هذا المشروع الذي سيعمل على تجميل قطاع غزة و خلق بيئة صحية سليمة و مؤهلة للسياحة خاصة و الانشطة الاقتصادية الاخرى.
• ترميم آلاف المساكن المتواضعة في المخيمات و الأحياء المزدحمة في مدن غزة و خان يونس و رفح و في المناطق العشوائية كذلك. هذا يعمل على تحسين ظروف السكن و الصحة العامة لعشرات آلاف الأسر في القطاع. الحق في سكن نظيف هو أحد الحقوق الاقتصادية والاجتماعية المنصوص عليها محليا و دوليا. مثل هذا التدخل في ترميم البيوت سيعيد الحياة للمئات من الشركات الصغيرة و المقاولين و الصنائعية الذين أصبحوا متعطلين بسبب جمود نشاط البناء. كذلك سيعمل على تحسين الصحة العامة و تقليص العنف داخل المنازل .
• دعم و تشغيل آلاف المشروعات العائلية و الصغيرة جدا التجارية منها و الصناعية و السياحية من خلال المساهمة بنسبة معقولة من الأجور و بما يمثل مساندة تنموية لهذه المشاريع.
بالتأكيد ليس من المنطقي صرف المساعدات الدولية كلها في مجال واحد فقط، بل يجب تطوير خطة تقترح تدخلات متنوعة في الوقت ذاته، مثل بناء بعض المدارس و رصف بعض الطرقات و ترميم بضع مئات من المنازل ضمن خطة متنوعة البرامج تطبق على سنوات عديدة. للتأكيد على صلاحية هذه الرؤية:- فإن مشاريع بناء المدارس و رصف الطرق تساهم بنسبة لا تقل عن 30-40 % من إجمالي التكلفة إلى العمالة المباشرة و غير المباشرة. و بحساب بسيط : إن رصف طريق بطول كيلومتر يكلف مليون دولار ، ثلث هذا المبلغ يذهب للعمال. هذا يعني صرف مرتب بقيمة 400 دولار لــ 250 عاملا و مهندسا لمدة ثلاثة أشهر. مثال آخر، إن بناء مدرسة يكلف مليون دولار، ثلث هذا المبلغ للعمال و المهندسين، يعني دفع مرتب بقيمة 400 دولار لــ 100 عامل و مهندس لمدة تسعة أشهر.
يجب تعزيز الأثر التنموي لهذه التدخلات من خلال تعزيز الاعتماد على المنتج أو المدخل المحلي مثل: استخدام البلاط المصنع محليا بدلا من السيراميك مثلا. كذلك اشتراط تكثيف الاعتماد على العمل و تقليص استخدام الميكنة بقدر الإمكان.
وحيث إن قطاع الإنشاءات يتقاطع مع عشرات الأنشطة الاقتصادية الأخرى ، فإن تفعيل قطاع الإنشاءات يساعد كثيرا في تفعيل الأنشطة الاقتصادية. حيث ستتمكن الكثير من المشاريع من الازدهار و تحقيق الأرباح و من ثم دفع الضرائب فيما بعد.
نقطة مهمة هنا هي أن مثل هذه التدخلات النوعية ضمن خطة متكاملة ستشجع العديد من الحكومات الغربية و المؤسسات الدولية، التي تجد حرجا في التمويل النقدي على التدخل بالمساعدة في دعم مثل هذه التدخلات. وجود هذه الخطة المتكاملة تسحب المبرر من بعض التدخلات الدولية التي تتم في قطاع غزة دون أن تتناسق مع احتياجات السكان الحقيقية.