وتمر بنا ذكرى النكبة كما كل عام ثقيلة كئيبة، نتذكر مآسيها ونعيش ذكرياتها بكل ألم التهجير القسري والبعد الطويل والشوق المضني للوطن، ومن ثم تمضي وكأنها في كل عام تزيد رصيدها هماً ثقيلاً في صدورنا، لتبقى في نفوسنا حسرة مرة تتحول من ألم إلى غضب عارم يشتعل في كياننا كله وينعكس غلاً ونقمة على كل من شارك أو خطط أو تواطأ في ارتكاب تلك الجريمة التاريخية.
لقد كانت النكبة جريمة بلغت في بشاعتها وقسوتها ما لم تبلغه جريمة، وذلك أنها جريمة تعدت في آثارها الإنسان لتشمل البيئة والتاريخ والجغرافيا.
لقد أمعن الصهاينة في ارتكاب جرائهم بحق الإنسان من قتل وتشريد وسجن وحرق، وطرد مئات آلاف المواطنين من ديارهم بقوة السلاح، ثم عمدوا إلى ديار من شردوا فدمروا ما يربو على أربعمائة قرية ودرسوا آثارها فأحالوها إلى أثرٍ بعد عين، ثم سطوا على محاصيلهم التي كانت قد استوت على سوقها فنهبوها، ولم يكتفوا بذلك بل بلغت بهم الوقاحة أن استولوا على أراضيهم بدعوى أنها أملاك غائبين بعد أن غيبوهم بقوة السلاح ومنعوهم من العودة، وكم من فلسطيني قتل على أعتاب قريته محاولاً العودة إلى بيته ليجلب بعض مقتنياته.
ولتكتمل جريمة السلب سلموا هذه الممتلكات لغرباء قادمين من وراء البحار بدعوى باطلة زيفتها أساطير خرافية ، ثم تطاولوا على جغرافيا المنطقة فرسموا حدودا لكيان مصطنع وأسموه دولة ليقبله العالم في غمرة من الهمجية التي سادته فنزعت عنه إنسانيته ليشيح بوجهه عن ظلم يمارس أمام ناظريه فيسكت عنه متواطئا ليسجل التاريخ للعالم الذي يسمي نفسه حرا هذه الندبة السوداء في تاريخ البشرية التي ما زالت شاهدة على هذا التواطؤ، ولم يكتفوا بتزييف الخارطة بل سطوا على أسماء المدن والجبال والقرى والسهول واستبدلوها بأسماء غريبة عن الأرض ليجبروها على ان تكتسي بلباس غريب عن أصالتها وعراقتها وثقافتها فما ثلبت ان تشقه بين الحين والآخر لتظهر ثوبها الأصيل الكامن تحت ذلك اللباس الغريب..
ولكن إذا زيف الحاضر فالتاريخ شاهد أزلي له مع الأرض حكايات وحكايات فهي مهبط الحضارات وأرض الرسلات وفيها صنعت أحداث خالدة في التاريخ وفي محاولة منهم لصنع تاريخ مزيف على أرض فلسطين، ادعوا ان لهم هيكلا كان في غابر الازمان، فنقبوا الأرض وآذوها ليجدوا أثرا ما عله يثبت ادعاءهم، فردت أيديهم صفرا وما زالت الأرض تكذبهم كلما نبشوها ليبحثوا على تاريخهم المزعوم، وما زالت صخور الأرض تلعنهم كلما حطموها ليبحثوا عن حجارة كانت في يوم معبدا لهم كما يزعمون، وكما عم أذاهم الإنسان والتاريخ والجغرافيا امتد أذاهم إلى البيئة فعاثت أيديهم فساداً فيها فجففوا بحيرة الحولة وحولوا مسار نهر الأردن فتقلص البحر الميت الذي كان منذ آلاف السنين شاهدا على حضارات أصحاب تلك البقعة الطيبة من الأرض وكأنهم يسعون إلى طمس كل شاهد على تاريخ فلسطين الذي حفظته معالم الأرض وتضاريسها.
ولكن رغم كل محاولتهم البائسة والفاشلة حفظت الأرض العهد ونبذت الغرباء وتشبث التاريخ بصانعيه، وما زال الفلسطيني يلبي نداء الأرض كلما نادت فيرويها بدمه تارة وبعرقه تارة وبحبه دائماً ويسلم عهده ووصيته لبنيه من بعده.
أن يا بني احفظوا عهدي وعهد آبائي وأجدادي من بعدي... ولا زالت هذه العهدة المباركة تنتقل من جيل إلى جيل حتى يأتي أمر ربك.