ترك الشهيد مازن فقها خلفه كل الذكريات تطوفُ من حولهم لتخبرهم أن الغياب" قدرٌ ومصير"، رحل دون وداعٍ، بعد أن زلزل بفراقه قلوب الملايين.
عمر عصيدة خال زوجة فقها يفتح نافذة الحنين من شرفة الذكريات والحسرة في حديثه لصحيفة "فلسطين" عن صداقته مع فقها التي نسجت بين قضبان السجون المظلمة، وربطت بالنسب بين العائلتين ولهذه قصة أيضًا، حتى آخر اللحظات التي جمعتهما معا.
عمر عصيدة أسيرٌ محرر اعتقل عام 2002 بتهمة قتل مستوطنين وحُكم بالسجن المؤبد مع عشرة أعوام، لكنه أمضى عشر سنوات وخرج بصفقةِ وفاء الأحرار عام 2011م.
صداقة في السجن
البداية، تفاصيل صداقة نسجت خيوطها من داخل السجن، يستعيدها عصيدة من ذاكرة الماضي، حين نقلته إدارة مصلحة السجون من سجن هشارون إلى سجن رامون حاضرا في ذاكرته، ليكون في استقباله شخصٌ بشوش الوجه طيب المعاملة.
يستذكر مشهد التعارف جيدًا، فيقول: "تعرفتُ على مازن وعشتُ حياةً طيبة معه، كان شخصًا مميزا يحفظ القرآن الكريم، حصل على السند المتصل عن رسول الله في تلاوة القرآن، كذلك أخذ إجازة بإعطاء السند، لينفع نفسه والآخرين".
جذبه أسلوب مازن في كسب قلوب الآخرين أثناء حديثه لنا، فكانا بنفس القسم بسجن رامون الذي يضم 15 غرفة في كل غرفةٍ ثمانية أشخاص، ويلتقيان لمراتٍ في اليوم نفسه، خلال الزيارات المتبادلة التي تستمر لساعتين داخل الغرفة.
وهكذا نمت الصداقة والمحبة بين الاثنين من جذورها، لتسقيها الأيام بقطراتٍ من الحب، نبتت في تلك القضبان المظلمة، يصف عصيدة رفيق الدرب، قائلًا: "كان في السجون شخصيةٍ قيادية؛ كما كان له نشاطٌ بالكتلة الإسلامية حينما كان طالبًا بجامعة النجاح؛ وفي السجن كانت تحدث اللقاءات بين الأسرى، بفعل إجراءات الاحتلال المفاجئة كقرع النوافذ المظلمة، فيستغلَّونها بالحديث مع بعضهم.
عن أيام السجن يتحدث عمر الذي توزعت أشعة الشمس على وجهه حيث كنا نجلس؛ يقول: "مازن من الأشخاص المميزين بأطروحاته وأفكاره الجديدة التي يبتكرها، ينظر للأمور نظرة مميزة عن غيره؛ كانت نظرته شمولية كبيرة؛ لا ينظر لصغائر الأمور؛ وهذا ما ميزه كشخصية قيادية".
يصمت قليلًا وكأنه يحاول أن يستجمع الحنين؛ ويقول: "كم هو شخصٌ رائع"؛ صاحب عزيمة قوية، يحب القراءة فهو مثقف في جميع المجالات.
وهنا لم يفر من ذاكرته حب رفيق الدرب لممارسة الرياضة حسب المتاح داخل السجن، كان متميزا أيضًا بلعبتيّ كرة تنس الطاولة، وكرة الطائرة، يحافظ على صلابة جسمه، وصحته، من خلال ممارسة التمارين الرياضية، حتى لا يترك مجالًا للجو العام داخل السجن بالسيطرة على جسده وعقله.
ورغم ألم الفراق إلا أن بعض مواقف مازن أجبرت ابتسامة عمر على الخروج خلسة من بين الجراح، مبحرا في سيرة شخص عطرة كان كثير النقاش العام مع الأسرى داخل غرفته بين القضبان، شخصية قيادية من صغرها، لديه القدرة على اتخاذ القرار الحاسم نظرا لرأيه السديد في كثير من الأحيان.
يقول عصيدة: "مازن صاحب رسالةِ جهاد ومقاومة؛ ومحاربة الاحتلال أدَّاها قبل اعتقاله، حتى أن عملية صفد التي نفذها وقتل فيها تسعة إسرائيليين، كانت في زمنٍ يتشوق فيه الفلسطينيون لرد يفرح الأمة العربية والإسلامية ردًا على مجزرة اغتيال قائد كتائب القسام الشيخ صلاح شحادة عام 2002م".
والذي يفتح صفحة "أبو محمد" ويقلب في أيامه، والكلام يبقى لعصيدة، لن يجد يومًا أن مازن أساء لشخص معين، فكان "يجمع ولا يفرق".
وهكذا استمرت علاقتهما بالسجن، حتى أفرج عنهما بصفقة وفاء الأحرام عام 2011م، فيتحدث عن رفيق عزيز وغال: "استمرت علاقتنا الطيبة وكنا نتبادل الزيارات بعد الإفراج عنا وإبعادنا إلى قطاع غزة؛ وكان مازن يأتي ويبيتُ بعضًا من الليالي بشقتي بغزة".
والمستغرب من محبة مازن العارمة التي انتشرت بعد استشهاده، وشوق وتعاطف الناس معه، يتحدث عنه عصيدة بأن الطيبة التي تمتع فقها بها في التعامل مع الآخرين، أحد أسباب لذلك.
الكل يتمنى نسبه
في تلك الأثناء، كان الحديث بين الشباب هو "إكمال نصف الدين"، وإدخال الفرحة على عائلاتهم التي تشوقت إلى يوم الفرح بأبنائهم، مازن كان يسأل أيضًا ويبحث عن شريكة العمر، ومن سؤال يجر آخر، طلب من عمر أن يبحث له عن شريكة له، بعد أن عرف أن لدى شقيقته بنات، وكان يحب نسب عائلة "عصيدة" التي يحترمها ويفتخر بالشهيد نصر عصيدة.
"في تلك الفترة كانت والدتها قد جاءت في زيارة لغزة ومكثت لمدة شهر، وكانت تعرف مازن".
ويضيف: "اقترحتُ على شقيقتي الأمر فهي تعرف مازن وعائلته، لأنه شخص محبوب والجميع يتشرف بنسبه"، لكن القرار كان صعبًا على ناهد "أم محمد"، فالقرار يحتاج إلى فتاة تتفهم أن تعيش مغتربة.
"ما رأيك بالأمر؟" كان السؤال من والد "ناهد" لخالها، كي يحسم الأمر، "مازن شخص متميز خلقًا، الكل يتمنى نسبه"؛ بذات الكلمات التي لها دلالتها اختصر عصيدة جوابه، ليكون أبو محمد بعد ذلك "خير زوج لخير زوجة".
لكن الرد قبل ذلك استغرق شهرًا، وكان "شوق الانتظار" بالموافقة هو ما يجول في تفكير مازن، لكنه يؤمن أن "الخيرة فيما اختاره الله له"، يستذكر اللحظة التي جاءت فيها الموافقة على الزواج مبتسما، "فرح مازن وكان سعيدا جدا حينما حدثت الموافقة".
تمر على حديثه أجواء مراسم الاحتفال بالزفاف، وأنهما كان معا في ذات السهرة الجميلة، مطلع عام 2012م، فيقول مختلطًا الفرح والحزن بين كلماته التي تتقطرَّ حزنًا؛ "في ذلك الوقت أخرت زواجي لثلاثة أيام عن مازن، لأنه تزوج ابنة شقيقتي حتى يأخذ الجميع أجواء الفرحة".
ويبدي فخره بزوج ابنة شقيقته الذي أكمل مشواره المقاوم بعد الإفراج عنه من سجون الاحتلال: "لم يثنه الزواج عن مشواره المقاوم الذي بدأه من الضفة لتحرير فلسطين، فسلك الطريق وكان هدفه ساميا وكبيرا التحرير ثم التحرير".
شاي وكنافة
ولم ينتهِ الحديث بعد؛ فقد تناولت "فلسطين" معه أجواء الرحلة الأخيرة التي قضوها معًا في الجمعة الأخيرة؛ حيث اتفقت أربعُ عائلاتٍ خرجت في رحلة جماعية بعد صلاة الجمعة الماضي، لأرضٍ خالية في منطقة الشيخ عجلين غرب مدينة غزة بغرض التنزه، وكانت من أكثر الرحلات التي كان سعيدًا فيها بطل الحكاية.
ما أن وصلت العائلات الأرض في رحلة سادها السرور والترابط الاجتماعي، بدأ فقها بإشعال النار والشواء، في أجواءٍ دافئة كدفء ذلك الخبز الذي كان يقلّبه على تلك الجمرات قُبيل تناول طعام الغداء.
يقول عصيدة: "استمر أبو محمد الذي اعتاد على خدمة الآخرين في الاستمتاع بشواء اللحوم، وبعد ذلك صنع لنا إبريقًا من الشاي اللذيذ على الفحم".
في وسط أجواء الفرح التي سادت تلك الرحلة، أخذ فقها يحدث رفاقه حينها: "شوفوا كيف بدها تنبسط أم محمد".
في لحظة مرحٍ بين الأصدقاء يكمل عصيدة: "شاء الله أنه في ذات التوقيت خرج لنا أصدقاء لرحلة عائلية بمنطقة أخرى، ونحن جالسون نتسامر الحديث بعث أحدهم رسالة عبر موقع "واتس أب" بها صورة لصينية كنافة أعدوها، ابتسم فقها حينها وقال: "بدي أعطيهم الرد" فالتقط صورةً لإبريق الشاي على النار وأرسلها لهم.
ومع ذات الأجواء، كادت أن تتغير تفاصيل تلك الرحلة في لحظةٍ مُفاجئة؛ فقد اندفع أبو محمد نحو طفلته سارة، يحتضنها ويتفقدها بعد أن سقطت على أنفها.
والشهيد مازن فقها، والكلام لخال زوجته، من النوع الذي يتشوق الإنسان لسماع كلامه، كان يتبادل الحديث مع شخص من المتواجدين ويدعى "أبو عكرمة " زميله بدراسة الماجستير، قال خلاله أنه من أراد بالبداية التسجيل لنيل رسالة الماجستير بجامعة أبو ديس، لكنهم طلبوا منه إجازة من جامعة كان يدرس بها.
فقها حدثهم في تلك الأثناء، أنه ظل يستحضر الأساتذة الجامعيين ممن درسوه فتذكر من مات أو تقاعد، ثم كيف بعث شقيقه إلى جامعة النجاح؛ وتعرف على أستاذين بتلك الجامعة التي كان يدرس فيها قبل أكثر من 16 عامًا، وكانوا يعرفونه نظرًا لشدة تميزه، وعلى الفور أعطوه إجازة الامتياز، فأرسل كتاب التقييم والتذكية من النجاح لجامعة أبو ديس، وكان مميزًا فيها وحصلت مجموعته على درجة الامتياز من بين البحوث في أبو ديس.
ما أجملها من رؤيا
أثناء لحظات حميمة بين الأصدقاء، كشف فقها رؤيا رآها في منامه قبل يومين، قائلًا: " رأيت أننا دخلنا في تحرير فلسطين والناس تذهب لـــــ "تل أبيب"؛ كل شخص يريد أخذ حصته وغنيمته".
ويواصل سرد الرؤيا: "كنتُ أمشي و"تل أبيب" ما زالت بعيدة، فرأيت بيتًا أبيض وقلت سأدخل به وسآخذه وبعدها نكمل"؛ ويعلق صاحبه: "كان أبو محمد يعتقد جازما أن تحرير فلسطين سيكون قريبًا".
وما أن أسدل الليل ستاره كان صوت طائرات الاستطلاع يدَّوي منخفضًا وبشكل مكثف منذ مساء يوم الجمعة؛ فغادرت عائلتان وبقيت عائلة فقها وعصيدة، يقول: "كان أبو محمد لديه فطنة للأمور الأمنية، ولكن استمر الاستطلاعي فوق المنطقة، وهذا ليس غريبًا على الأماكن التي يتواجد فيها فقها، فيكون الطيران مكثفًا".
وما أن حان أذان العشاء قال أبو محمد لخال زوجته: "سامع هي الطيران فوقنا "، فكان صوت طيران الاستطلاع منخفضًا، يعقب بالقول: "لطالما كان مازن يعتقد جازمًا أنه مراقب ومتبع من الطيران والعملاء، وكان دائمًا يحمل السلاح ويلازمه".
ويكمل: "غادرنا الأرض حين أذان العشاء واستشهد على إقامة الصلاة".
ويذكر أن حارس العمارة يوم الجمعة يأخذ إجازة أسبوعية، ويزيد: "بعد أن أبلغت الشرطة، ذهبت إلى مستشفى القدس، كنت تركته قبل دقائق ولم أر فرقًا سوى أنه نائم".
يختم خال زوجته الحديث: " أبو محمد من أصحاب الهدف الكبير لا ينظر إلى الأهداف الصغيرة، لتحقيق العمل بشمولية؛ وكان من القلائل المعهود لهم بحكمتهم ودرايتهم وإصرارهم على إكمال مشوار المقاوم الذي عشقه".