تحت الاحتلال والقهر البريطاني:
وعندما وقعت فلسطين تحت الاحتلال البريطاني 1917-1948، كان من الواضح أن هذه الدولة جاءت لتنفيذ المشروع الصهيوني وإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. وقد استثمرت كل صلاحيات الحكم الاستعماري وقهره لفرض هذا الواقع. وقد قاومت الحركة الوطنية الفلسطينية الاستيطان اليهودي بكل ما تملك من وسائل سياسية وإعلامية واحتجاجية، وخاضت الكثير من الثورات والمجابهات. وبلغ مجموع ما تمكن اليهود الصهاينة من الاستيلاء عليه خلال فترة الاحتلال البريطاني نحو 1.2 مليون دونم أي نحو 4.5% فقط من أرض فلسطين، على الرغم مما جندته من إمكانات عالمية، ورؤوس أموال ضخمة، وتحت الدعم والإرهاب المباشر لقوة الاحتلال الغاشمة.
ولكن مهلًا! فمعظم هذه الأراضي لم يشتروها في الواقع من أبناء فلسطين! فالحقائق الموضوعية تشير إلى أن معظم هذه الأراضي تسرب لليهود عن طريق منح حكومية بريطانية لأراضي فلسطين الأميرية "أراضي الدولة"، أو عن طريق ملاك إقطاعيين كبار غير فلسطينيين كانوا يقيمون في الخارج، ومُنعوا عمليًا ورسميًا من الدخول إلى هذه المنطقة (تحت الاحتلال البريطاني) لاستثمار أرضهم إن كانوا يرغبون بذلك فعلًا.
فقد منحت السلطات البريطانية نحو 300 ألف دونم لليهود من الأراضي الأميرية دون مقابل، كما منحتهم 200 ألف دونم أخرى مقابل أجر رمزي، ففي عهد هربرت صموئيل Herbert Samuel، أول مندوب سامٍ بريطاني على فلسطين (1920-1925) وهو يهودي صهيوني، قام بمنح 175 ألف دونم من أخصب أراضي الدولة على الساحل بين حيفا وقيسارية لليهود، وتكررت هباته الضخمة على الأراضي الساحلية الأخرى وفي النقب وعلى ساحل البحر الميت.
وكان هناك أملاك إقطاعية ضخمة لعائلات حصلت على هذه الأراضي، خصوصًا سنة 1869 عندما اضطرت الدولة العثمانية لبيع أراضٍ أميرية لتوفير بعض الأموال لخزينتها، فقامت بشرائها عائلات لبنانية غنية، وقد مثَّل ذلك وجهًا آخر للمأساة. وقد باع إقطاعيون من خارج فلسطين ما مجموعه 625 ألف دونم؛ فعائلة سرسق باعت أكثر من 200 ألف دونم من أراضي مرج ابن عامر للصهاينة، وتسبّب ذلك في تشريد 2,746 أسرة عربية هم أهل 22 قرية فلسطينية، كانت تفلح هذه الأراضي لمئات السنين. وتكررت المأساة عندما باعت إقطاعيو عائلات لبنانية أخرى نحو 120 ألف دونم حول بحيرة الحولة شمال فلسطين، كما باعت أسرتان لبنانيتان أراضي وادي الحوارث (32 ألف دونم) مما تسبب في تشريد 15 ألف فلسطيني. وقد بلغت الأراضي الزراعية التي باعها ملاك إقطاعيون غائبون خارج فلسطين (ينتمون لعائلات لبنانية وسورية) خلال الفترة 1920-1936 ما نسبته 55.5% مما حصل عليه اليهود من أراضٍ زراعية.
وعلى الرغم مما يتحمله من قام بهذه البيوع من أبناء هذه العائلات من مسؤولية، فإن اللوم لا يقع بشكل كامل عليهم وحدهم، إذ إن السلطات البريطانية منعتهم من الدخول لاستغلال هذه الأراضي، بحجة أنهم أجانب، وذلك بعد أن تم فصل فلسطين عن سورية ولبنان وفق تقسيمات سايكس-بيكو Sykes–Picot بين الاستعمارَين البريطاني والفرنسي. كما أن ذكرنا لبعض أسماء العائلات يأتي في سياق معلوماتي علمي.
أما مجموع ما تسرب إلى أيدي اليهود من أراضٍ باعها لهم عرب فلسطين خلال الاحتلال البريطاني فكان نحو 260 ألف دونم (أقل من 1%) من أرض فلسطين. وقد حصل اليهود على هذه الأراضي بسبب الظروف القاسية التي وضعت حكومة الاستعمار البريطاني الفلاحين الفلسطينيين فيها، ونتيجة لاستخدام البريطانيين لأسلوب نزع الملكية العربية لصالح اليهود وفق مواد من صك الانتداب البريطاني على فلسطين، والتي تخول المندوب السامي هذا الحق. كما حدثت حالات بيع بسبب ضَعف عدد من الفلسطينيين ووقوعهم تحت الإغراءات المادية؛ وليس من المستغرب أن توجد في كل زمان ومكان في أي بلد عربي أو غير عربي، فئات قليلة تضعف أمام الإغراءات، لكنها على أي حال فئة منبوذة محارَبة من مجمل أبناء شعب فلسطين، وقد تعرض الكثير منهم للمقاطعة والتصفية والاغتيال خصوصًا في أثناء الثورة العربية الكبرى التي عمت فلسطين خلال 1936-1939.
وعلى هذا فإن مجموع ما حصل عليه اليهود من أبناء فلسطين حتى سنة 1948 لا يتجاوز 1% من أرض فلسطين، وخلال سبعين عامًا من بداية الاستيطان والهجرة المنظمة لفلسطين، وتحت ظروف قاسية. وهذا بحد ذاته يبرز مدى المعاناة التي لقيها اليهود في تثبيت مشروعهم وإنجاحه في فلسطين، ومدى إصرار الفلسطينيين على التمسك بأرضهم.
مقاومة وصمود:
وقد بذل أبناء فلسطين خصوصًا في الثلاثينيات من القرن العشرين جهودا كبيرة في محاربة بيع الأراضي، وكان للمجلس الإسلامي الأعلى بقيادة الحاج أمين الحسيني، وعلماء فلسطين دور بارز. فقد أصدر مؤتمر علماء فلسطين الأول في 1935/1/25 فتوى بالإجماع تحرِّم بيع أي شبر من أراضي فلسطين لليهود، وتعدُّ البائع والسمسار والوسيط المستحل للبيع مارقين من الدين، خارجين من زمرة المسلمين، وحرمانهم من الدفن في مقابر المسلمين، ومقاطعتهم في كل شيء والتشهير بهم.
ونظم العلماء بحملة كبرى في جميع مدن وقرى فلسطين ضد بيع الأراضي لليهود، وعقدوا الكثير من الاجتماعات وأخذوا العهود والمواثيق على الجماهير بأن يتمسكوا بأرضهم، وأَلا يفرطوا بشيء منها. وقد تمكن العلماء من إنقاذ أراضٍ كثيرة كانت مهددة بالبيع، واشترى المجلس الإسلامي الأعلى قرى بأكملها مثل دير عمرو وزيتا، والأرض المشاع في قرى الطيبة وعتّيل والطّيرة، وأَوْقف البيع في نحو ستين قرية من قرى يافا. وتألفت مؤسسات وطنية أسهمت في إيقاف بيع الأراضي، فأنشئ "صندوق الأمة" بإدارة الاقتصادي الفلسطيني أحمد حلمي باشا، وتمكن من إنقاذ أراضي البطيحة شمال شرقي فلسطين، ومساحتها تبلغ 300 ألف دونم.
حرب 1948 ونتائجها:
إن الخسارة الحقيقية لأرض فلسطين لم تكن بسبب بيع الفلسطينيين لأرضهم. فحتى سنة 1948 كان الفلسطينيون يحتفظون بنحو 94% من أرض فلسطين، بالرغم من قسوة معاناتهم وشراسة الاحتلال البريطاني والمشروع الصهيوني. أما أرض فلسطين التي قام عليها الكيان الصهيوني أو ما يسمى "إسرائيل"، فقد تم استلابها بسبب هزيمة الجيوش العربية في حرب 1948، حيث تمت السيطرة على نحو 77% من أرض فلسطين، كما قامت العصابات الصهيونية، المدعومة من القوى الكبرى، بارتكاب عشرات المجازر، وتهجير نحو 58% من شعب فلسطين بقوة السلاح، إلى خارج الأرض التي أقام اليهود الصهاينة عليها كيانهم.
لقد مزقت حرب 1948 النسيج الاجتماعي والاقتصادي للشعب الفلسطيني. ولم يكن الصهاينة الذين بنَوْا كيانهم على بحر من دماء الفلسطينيين وآلامهم ومعاناتهم ليشعروا بالإثم أو وخز الضمير. ويعترف موشيه ديان Moshe Dayan الذي تولى مناصب رئاسة أركان الجيش الإسرائيلي ووزارة الدفاع ووزارة الخارجية، وكان عالمًا بالآثار، أنه "ليست هناك قرية يهودية واحدة في هذه البلاد لم يتم بناؤها فوق موقع لقرية عربية". وفي حرب 1967 قام الكيان الصهيوني باحتلال باقي أرض فلسطين (الضفة الغربية وقطاع غزة)، حيث تابع الاستيطان ومصادرة الأراضي تحت مختلف الذرائع.
وقد ظلت نظرة أبناء فلسطين حتى الآن إلى من يبيع أرضه أو يتوسط بالبيع نظرة احتقار وازدراء، وظلَّ حكمُ الإعدام يلاحق كل من تُسوِّل له نفسه بيع الأرض، وقام رجال الثورة الفلسطينية بتصفية الكثيرين من هؤلاء على الرغم من حماية قوات الاحتلال الصهيوني لهم.
والشعب الفلسطيني يَعدُّ فلسطين أمانة في عنقه، وهو يواصل صموده على أرضه، قابضًا على الجمر، لا يضره من خالفه أو خذله؛ ولن يتنازل عن ذرة تراب منها، وسيتابع مقاومته حتى تتحرر كاملة من نهرها إلى بحرها، وتعود لها هويتها العربية الإسلامية.