سألني ذات يوم أحد أساتذة الجامعات العرب على استحياء هذا السؤال: هل باع الفلسطينيون أرضهم، وتخلوا عنها لليهود؟ ولم يكن ليسأل لولا أن الصلة توثقت بيننا، وعلم أنه لن يُحرجني بسؤاله. والواقع أنني لم أحرج من سؤاله، ولكن ما أثار استغرابي أنه أستاذ في التاريخ الحديث، وممن أسهموا في إعداد مناهج التاريخ في بلده العربي، وفيها مباحث عن فلسطين!! فهمت بعد ذلك أن هذا السؤال يتردد في صدور الكثيرين، ويجدون حرجًا في إثارته، وعرفت كم يقصر الفلسطينيون، والمتخصصون في الدارسات الفلسطينية في شرح القضية بشكل سليم وموضوعي، ليس للعالم وإنما حتى لأبناء جلدتهم ودينهم.
تُركِّز الدعاية اليهودية الصهيونية على أن الفلسطينيين هم الذين باعوا أرضهم لليهود، وأن اليهود إنما اشتروها "بالحلال" من أموالهم، فلا ينبغي للفلسطينيين أن يطالبوا بعد ذلك بها! ولعلنا نستطيع هنا إعطاء فكرة مختصرة عن الموضوع.
فلسطين: شعب متجذر في أرضه:
إن الدعاية الصهيونية في بداياتها ومنذ القرن التاسع عشر ارتكزت على فكرة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، مُعتبرةً أنه لا يوجد شعب في فلسطين، وأن من حق اليهود الذين لا يملكون أرضًا أن تكون هذه الأرض لهم. لكنهم ومنذ بوادر الاستيطان الأولى وجدوها عامرة بالحيوية والنشاط، يعيش فيها شعب كادح متجذر في أرضه.
ومن الطريف أن نذكر قصة متداولة أنه في العقد الأخير من القرن التاسع عشر بعث ماكس نوردو Max Nordau، أحد كبار قادة الحركة الصهيونية المقربين إلى ثيودور هرتزل Theodor Herzl، بحاخامين اثنين ليرفعا تقريرًا إلى المؤتمر الصهيوني عن الإمكانية العملية للهجرة إلى فلسطين، وبعد أن رجعا، كتبا تقريرًا جاء فيه: "إن فلسطين عروس جميلة، ولكنها متزوجة فعلًا من رجل آخر"! أي أن هناك شعبًا يسكنها وليست أرضًا بلا شعب.
مقاومة مبكرة:
لقد بدأت المقاومة الفلسطينية النشطة للاستيطان اليهودي الصهيوني في فلسطين منذ أن بدأ هذا المشروع بالظهور، ومنذ المراحل الأولى المبكرة له، في أيام الدولة العثمانية. فقد حدثت اصطدامات بين الفلاحين الفلسطينيين وبين المستوطنين اليهود سنة 1886، وعندما جاء رشاد باشا متصرفًا للقدس وأبدى محاباة للصهاينة، قام وفد من وجهاء القدس بتقديم الاحتجاجات ضده في أيار/ مايو 1890، وقام وجهاء القدس في 1891/6/24 بتقديم عريضة للصدر الأعظم (رئيس الوزراء) في الدولة العثمانية طالبوا فيها بمنع هجرة اليهود الروس إلى فلسطين وتحريم استملاكهم للأراضي فيها.
ونبه علماء فلسطين وممثلوها لدى السلطات العثمانية، كذلك صحف فلسطين على خطر الاستيطان اليهودي والمطالبة بإجراءات صارمة لمواجهته. وترأس الشيخ محمد طاهر الحسيني مفتي القدس سنة 1897 هيئةً محلية ذات صلاحيات حكومية للتدقيق في طلبات نقل الملكية في متصرفية بيت المقدس، فحال دون انتقال أراضٍ كثيرة لليهود. وكان للشيخ سليمان التاجي الفاروقي، الذي أسس الحزب الوطني العثماني في سنة 1911، دوره في التحذير من الخطر الصهيوني، وكذلك فعل يوسف الخالدي، وروحي الخالدي، وسعيد الحسيني، ونجيب نصار.
وعلى الرغم من أن السلطان عبد الحميد والسلطات المركزية أصدرت تعليماتها بمقاومة الهجرة والاستيطان اليهودي، إلا أن فساد الجهاز الإداري العثماني حال دون تنفيذها، واستطاع اليهود الصهاينة من خلال الرشاوى شراء الكثير من الأراضي. ثم إن سيطرة حزب الاتحاد والترقي على الدولة العثمانية وإسقاطهم السلطان عبد الحميد سنة 1909، والنفوذ اليهودي الصهيوني الكبير بداخل هذا الحزب، قد سهل استملاك اليهود للأرض وهجرتهم لفلسطين.
ومع نهاية الدولة العثمانية 1918 كان اليهود قد حصلوا على نحو 420 ألف دونم (أي 1.5%) من أرض فلسطين، اشتروها من ملاك إقطاعيين لبنانيين ينتمون إلى عائلات مثل آل سرسق، وتيان، وتويني، ومدور، أو من الإدارة العثمانية عن طريق المزاد العلني الذي تباع فيه أراضي الفلاحين الفلسطينيين العاجزين عن دفع الضرائب المترتبة عليهم، أو من بعض الملاك الفلسطينيين ينتمون إلى عائلات إقطاعية أمثال عائلات روك وكسار. وقد غطت عمليات الشراء هذه نحو 93% من الأرض التي حصلوا عليها. وعلى أي حال، فإن الخطر الصهيوني لم يكن يمثل خطرًا جديًا على أبناء فلسطين في ذلك الوقت، لضآلة الحجم الاستيطاني والسكاني اليهودي، وللاستحالة العملية لإنشاء كيان صهيوني في ظل دولة مسلمة (الدولة العثمانية).