فلسطين أون لاين

مبعدو كنيسة "المهد" ينبشون ذكرياتهم لصحيفة "فلسطين"

تقرير بعد 18 عامًا من الإبعاد "جعارة" لم يلتقِ بأولاده.. وشوق "حمود" لـ "بيت لحم" لم يبرد

...
وقفة سابقة لمبعدي كنيسة المهد لغزة (أرشيف)
غزة- يحيى اليعقوبي

في داخل إحدى أزقة أحياء مدينة بيت لحم، الاشتباكات المسلحة بين المقاومين وقوات الاحتلال التي بدأت باجتياح المدينة في أول أيام إبريل/ نيسان 2002 مستمرة بكثافة؛ حتى أصابت رصاصة قدم جهاد جعارة أحد المقاومين.

ظل جهاد ينزف لبرهة من الوقت اعتقد أن الحياة توقفت وانتهت هنا، ليأتي رفيقه المقاوم ويدعى مازن حسين، رافضا تركه مصابا وقال له وسط زخات الرصاص حولهم: "والله يا نصل ونخرج بأمان .. أو استشهد معك"، لكن كانت عملية اجلاء جعارة بكامل عتاده العسكري، متعبا لرفيقه الذي يرتدي عتادا كاملا ويتقهقر ويناور في الانسحاب مع  تبادل لإطلاق النار مع قوات الاحتلال حتى سارا كيلو ونصف ووصلا إلى كنيسة المهد، كانت المسافة بالنسبة له أشبه بـ 25 كيلو مترا مع صعوبتها، لم يتخيل أنه سينجو منها.

ذلك الاشتباك جزء من ملحمة بطولية من تاريخ الشعب الفلسطيني بدأت فصولها؛ في شهر إبريل/ نيسان عام 2002م حينما اجتاحت دبابات الاحتلال الإسرائيلي مدينة "بيت لحم" انتهى بحصار المقاومين في "كنيسة المهد" لمدة 39 يوما، كان جعارة من ضمنهم، انتهى الحصار في 10 مايو/ أيار 2002م، يقضي بإبعاد 39 شخصا منهم 13 إلى أوروبا و26 إلى قطاع غزة، علما أنه ارتقى 9 شهداء وأصيب 26 مقاوما خلال فترة الحصار.

يعود جعارة الذي أبعد إلى إيرلندا بذاكرته إلى ما قبل 18 عاما مستذكرا أيام الحصار في مستهل حديثه لصحيفة "فلسطين": "خرجنا من بيوتنا لنلبي نداء الوطن وندافع عن مدينتنا، قاتلنا في شوارع مدينة بيت لحم قبل أسبوعين من حصارنا في كنيسة المهد".

من أجمل المواقف المحفورة في ذاكرته، وتدلل على التلاحم بين مكونات الشعب الفلسطيني، قصته مع "راهبة الكنيسة"، يروي تفاصيلها: "كانت "الراهبة" مريضة سرطان، لكنها رفضت الخروج من الكنيسة لتلقي جرعات علاجي لأنها ظلت تداوي جراح قدمي، وكانت طبيبة ماهرة".

تغافل حديثه ضحكة ذكرته بموقف جميل: "في 22 مايو حينما وصلت مطار إيرلندا، جرى ابلاغي أنني رزقت بطفلي صامد،  وعشت مع رامي كأخي، لكن بقي قلبي في فلسطين وبيت لحم تحديدا، خلال 18 عاما عشت بإيرلندا كأنني مسجون ممنوع من السفر، وأنا الوحيد الذي منع الاحتلال أطفالي من القدوم إلي للعيش معي".

حتى تفاصيل الوجع هنا مرهقة، تنهيدته تروي الحكاية: "حينما اتحدث مع ابنائي الأربعة احتار بالحديث معهم على أنهم الاطفال الذين تركتهم، أم الشباب الذين يظهرون أمامي ولم استطع رؤيتهم أكبرهم عمره 22 سنة، وأصغرهم "صامد" 18 عاما مسجون لمدة عامين لدى الاحتلال".

كل بلدان الدنيا لا تعوض حنين وشوق إنسان أبعد قسريًا عن بلدته ومدينته الأصلية حتى لو كان هذا الإبعاد في جزء آخر من الوطن المحتل، فيبقى ارتباطه الروحي بمدينته التي ترعرع فيها، يحن لشوارعها، لجبالها، أشجارها، منزله في مدينة "بيت لحم" .. كلها لم يعد يراها المبعد  إلى قطاع غزة حاتم حمود (45 عاما) منذ 17 عاما لحظة إلا في صور لا تبرد شوقه إلى مدينته.

يستذكر حمود تلك الأيام، "كانت الاشتباكات مع قوات الاحتلال تحدث بشكل يومي بعد أن اجتاح الضفة الغربية، وعندما اجتاح بيت لحم حاصرها بالدبابات والطائرات وكل ما اتيح له من قوة، لم يحترم الاحتلال قدسية المكان فكان يلقي القنابل مما أدى لتدمير وتضرر بعض الأماكن (..) كانت الحياة صعبة لا طعام ولا شيء رغم أن لدينا شهداء".

ضغط على المقاومين بإحضار عائلاتهم للمكان، لإجبارهم على تسليم أنفسهم، إلى أن حدث اتفاق بعد مفاوضات كانت أطرافه السلطة والاحتلال والاتحاد الأوروبي والإدارة الأمريكية".

كان الاتفاق يقضي بإبعادهم لمدة عام واعتبار المبعدين أنهم يتبعون للسلطة، ويتم ارجاعهم لمدينتهم بعدما تنتهي المدة، انتهى العام ولم يتم تنفيذه، يقول حمود وهو ممثل مبعدي كنيسة المهد في قطاع غزة: "اكتشفنا أن الاتفاق الذي تم بين السلطة والاحتلال واللجنة الرباعية الدولية كان شفهيا لم يتم إبرامه على ورق وجرى التنصل منه (..) وافقنا على الإبعاد على أن نعود بعد عام، لكننا ابعدنا بدون أية ضمانات لأن السلطة حملتنا مسؤولية الحصار، فكانت صفقة "عار" ندفع ثمنها إلى اليوم".

رغم مرور 18 عاما في غزة، رزق حمود فيها بستة أولاد بعد أن جاء لحظة الإبعاد ومعه ثلاثة فقط، إلا أن الكثير من المناسبات الحزينة أو السعيدة لعائلتها في بيت لحم لم يستطع حضورها، لم تبرد تلك السنوات شوقه عن حب بيت لحم التي يتمنى العودة إليها، مشيرا إلى أن السلطة مقصرة في متابعة الملف بالجنايات الدولية ، كما أن لديهم توجها للطلب من المقاومة بإدراج ملف المبعدين في صفقة التبادل".