محمود قابيل ممثل مصري لمع نجمه السينمائي في سبعينيات القرن العشرين، ثم خبا بريقه وتلاشى خلف سحاب النسيان، فتوارى عن الأنظار طوال عقد الثمانينيات حتى منتصف التسعينيات، عندما عاد من الولايات المتحدة الأمريكية إلى مصر، ليعود نجمه إلى البزوغ مرة أخرى، والسر في اختفائه وهجرته كان في قصته مع التطبيع. والفصل الأول من القصة موضوعه زيارة الرئيس المصري الأسبق أنور السادات لـ (إسرائيل). وعقد اتفاقية سلام معها، فاعتقد قابيل أن الباب قد فُتح للتطبيع، ليبدأ الفصل الثاني من القصة بزيارة قابيل لـ (إسرائيل)، والظهور على شاشة التلفزيون الإسرائيلي، وعقد علاقة صداقة وعمل مع طيار إسرائيلي، دون أن ينتبه إلى أنَّ البون لا زال شاسعاً بين عقد اتفاق سلام حكومي رسمي باهت وتطبيع علاقات شعب عربي- مسلم ومسيحي- أصيل مع دولة تحتل المسجد الأقصى وكنيسة القيامة، ومُقامة على أرض عربية مسلوبة وبقايا شعب مُهجّر، فكانت المفاجأة تنتظره في الفصل الثالث للقصة عندما عاد إلى مصر فوجد نقابة المهن التمثيلية قد اتخذت قراراً بحرمانه من التمثيل، وهذا الموقف الوطني والقومي الشريف تُجمع عليه كل النقابات المهنية في مصر وخلفها الشعب المصري، وهو قرار لا يزال ساري المفعول، لم يتآكل مع الزمن العربي الرديء، ولم تنحته عوامل التعرية القومية، ولكن غير ساري المفعول عند قلة من الفنانين العرب، الذين أخرجوا لشعوبهم أسوأ ما في الدراما من مضمون، وهي دراما التطبيع وإعادة تعريف العدو.
مسلسل (أم هارون) من هذه الدراما الخليجية التي تُروّجُ للتطبيع، من خلال تبنّي الرواية الصهيونية- الإسرائيلية الخاصة بمظلومية اليهود في الدول العربية قبل وبعد قيام دولة (إسرائيل)، وهي نفس الرواية التي تبنتها أمريكا في نص (صفقة القرن)، التي تُحمّل العرب مسؤولية (اللاجئين اليهود) من الدول العربية، وتزعم أنَّ هجرتهم من الدول العربية كانت بسبب الاضطهاد العربي لهم لكونهم يهودا، متجاهلة الدور الرئيس للدعاية الصهيونية الرامية إلى تهجيرهم إلى (إسرائيل)، وهي نفس الرواية بوجهها الآخر التي تُحمّل العرب مسؤولية معاناة اللاجئين الفلسطينيين واستمرار حالة اللجوء بعدم استيعابهم وتوطينهم في الدول العربية المُضيفة، متجاوزة دور الحركة الصهيونية بتشكيلاتها العسكرية الإرهابية التي تسببت في نكبة فلسطين، وهي نفس الرواية الخبيثة التي تتهم الفلسطينيين ببيع أرضهم لتبرئة المجرم من دم الضحية. وخطورة هذه الدراما التطبيعية أنها تتسلل لعقول المشاهدين عبر تمرير رسائل مباشرة واضحة تدعو إلى التطبيع، ورسائل غير مباشرة خفية تستقر في العقل الباطن للمشاهد، من خلال تكرار استحضار صورة (اليهودي الطيب المظلوم) في الدول العربية، أو صورة (اليهودي الإنسان العادي) في (إسرائيل)، لتحل تدريجياً مكان الصورة النمطية لليهودي الصهيوني الإسرائيلي المرتبطة بالشر والعدوان والاحتلال والقمع والإرهاب التي كانت حاضرة على الدوام في الدراما العربية يوماً ما. واذا كان مسلسل (أم هارون) يروّج للتطبيع من زاوية تبني الرواية الإسرائيلية فإن مسلسل (مخرج 7) يروّج للتطبيع من زاوية الدعوة للعلاقات مع اليهود الإسرائيليين وإعادة تعريف العدو.
مسلسل (مخرج 7) في حلقته الثالثة طرح قضية التطبيع من جانبين، الأول موضوع إقامة علاقات صداقة وعمل بين العرب واليهود الإسرائيليين، من خلال نموذجين أحدهما صبي يقيم علاقة صداقة عبر اللعب على الإنترنت مع صبي يهودي إسرائيلي، فينزعج الأب رافضاً هذه العلاقة ويطلب من الابن قطعها، ولكن زوجته كان لها وجهة نظر مُخالفة، فاعتبرت هذه العلاقة طبيعية وعادية مقبولة. والنموذج الآخر علاقة عمل عبر سعي رجل أعمال لإقامة علاقات تجارية مع رجال أعمال يهود إسرائيليين ودفاعه عن موقفه أمام رأي محاوره المُخالف لرأيه ضد التطبيع. وظهر هذان الموقفان من خلال حوار درامي فيه نوع من التوازن بين الرفض للتطبيع والمؤيد له بدون ترجيح لأي رأي منهما، وبدون حسم النقاش لصالح أي موقف منهما، لتحرير رسالة المسلسل بأن التطبيع مع (إسرائيل) أصبح قضية جدلية تقبل الاختلاف في وجهات النظر دون حسم للصواب والخطأ، ولم تعدْ قضية مُطلقة الرفض، أو بديهية لا يجب مناقشتها، من أجل إيجاد أرضية نفسية وعقلية لتمرير سياسة التطبيع الحكومية في المستقبل، وهو الهدف الأساسي لدراما التطبيع، فلم تُعد الدراما مرآة للواقع- ولم تكن يوماً كذلك – بل هي صانعة للواقع كما يريدهُ صُنّاع الدراما ومن ورائهم أولي الأمر عليهم، فصنّاع الدراما وظيفتهم نقل التاريخ والواقع بطريقة انتقائية ومُعدّلة وأحياناً مشوّهة لإيصال ما يريدونه للجمهور المستهدف، وأمثلة الدراما بمختلف أنواعها في تحويل كراهية الجمهور للمجرم القاتل أو مُروّج المخدرات إلى تعاطف معه، وأكبر مثال هو أفلام الكابوي الأمريكية التي قلبت الموازين فحوّلت الضحايا الأبرياء من السكان الأصليين (الهنود الحمر) إلى مجرمين متوحشين، وبرأت مع الغزاة الأوروبيين المتوحشين.
كما أن مسلسل (مخرج 7 ) يتعدّى موضوع التطبيع وصولاً إلى تبريره بطريقة لم تخطر على عقل أحد من الإنس والجان، فناقش قضية إعادة تعريف العدو، وطرح سؤالاً بطريقة جدلية (من هو العدو ؟!)، فقد مررنا في سنوات سابقة بمحاولة استبدال العدو الإسرائيلي بعدو آخر من داخل الأمة الإسلامية منذ (قادسية صدام) عندما كان الإيرانيون فُرساً، وحتى ثورات (الربيع العربي) عندما أصبح الإيرانيون شيعة، وفي كلا الحالتين هم مجوس لم يصلهم الإسلام بعد. والجديد الغريب في دراما التطبيع استبدال (إسرائيل) كعدو بالشعب الفلسطيني كعدو جديد، وظهر ذلك من خلال الحوار الدرامي بين بطلي المسلسل وبنفس الطريقة التي تعرض لوجهتي النظر المتوازنة بدون حسم أو ترجيح لأحدهما على الأخرى لتمرير رسالة المسلسل الواضحة والخفية. فوجهة النظر القديمة المعروفة بأن (إسرائيل) هي العدو، ووجهة النظر الجديدة بأن الشعب الفلسطيني هو العدو، تحت مبرر يعتمد على نظرية جديدة في تعريف العدو تستحق براءة اختراع للمؤلف ما سبقه بها أحد من العالمين، وهي بالنص غير المُقدس "ما ضيّع العرب طوال هذه السنين إلاّ القضية الفلسطينية" دون أن يتكرمّ علينا بتوضيح كيفية حدوث ذلك السر المكنون. والمبرر الآخر بالنص غير المُقدس "العدو هو اللي ما يقدّر وقفتك معاه ويسبك ليل نهار..." باختصار العدو هو من ينكر الجميل، وليس من يحتل المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين ومسرى الرسول – صلى الله عليه وسلم – والحقيقة أن هذا استغلال مقصود لما يحدث على صفحات التواصل الالكتروني في تراشق كلامي بين (السُفهاء)، وهو باطل أُريد به باطل.
خُلاصة الكلام أنَّ دراما التطبيع الخليجية هدفها تطبيع التطبيع، بمعنى تطبيع الحديث عن التطبيع، بغرض جعل قضية التطبيع قضية عادية للمواطن العربي، كالحديث عن الأهلي والزمالك، أو تقلبات أسعار البورصة، أو هضم حقوق المرأة، أو زيادة نسبة البطالة... وتكرار الحديث فيها مقصود، بهدف كسر الحاجز النفسي (بتاع السادات)، الذي يحول بين الشعوب العربية والتطبيع مع عدوها – حسب نظرية نتنياهو – فإذا ما كُسِر الحاجز النفسي، ضُعفت المناعة الذاتية للأمة، فتتسلل جراثيم التطبيع إلى عقلها وجسدها، وتسري في روحها ودمها، فتطرحها مريضة على فراش الوهم والوهن، وتتركها سقيمة على سرير العوز والعجز. وإذا كان ذلك مصير الأمة عندما تُسلّم رقبتها لمطبعيها، فإن واجب مقاوميها تكثيف دراما المقاومة المناهضة للتطبيع النابعة من عمق ديننا وثقافتنا وتاريخنا وقوميتنا وكرامتنا. ومن الواجب أيضاً تغيير الرؤية السلبية لفن الدراما، تلك الرؤية السوداودية التي سمحت لآخرين التفرد بفن الدراما، واكتفينا بإقامة منابر أعلنا فيها ليل نهار، أنها رجسٌ من عمل الأشرار، ودنسُ لا يقوم به إلاّ أهل النار.