فلسطين أون لاين

يوم الأسير وبكاء الحرية

عام 2007 ونحن ندور كعقارب الساعة في صحن عمرنا داخل سجن هداريم، كان في وقتها قد مضى على اعتقال صديقي 25 عاما متواصلات داخل سجون الاحتلال، قلت له بصوت المستفسر وصيغة من يريد أن يعرف الورائيات من الشعور: ما الذي يعوضك عن سني عمرك؟!

وبنظرة المشدوه وابتسامة المحزون وصوت المفجوع اندفعت الحروف من فمه لتنسج كلمات لا أنساها: لن أرضى عن يوم من أيام عمري بمكانةٍ ورمزيةٍ مثل مكانة أبي عمار.. انتهى.

فالحرية هي إمكانية الفرد دون أي جبر أو شرط أو ضغط خارجي وضغط نفسي على اتخاذ قرار أو تحديد خيار من إمكانات عدة موجودة، فإذا فقد أحد هذه الأمور أصيب بمرض الحرية.

أنت مريض لأنك لست حرًّا. أنت مريض لأنك غير مسيطر على إيقاع حياتك، فقدتَ الشعورَ بالزمان والمكان، الناتج عن نقص عمليات التفاعل الشعوري والوجداني مع المحيط والبيئة المجتمعية والعائلية التي ولدت بها.

أنت مريض لأن الحرية هي الكمال الإنساني الذي يتمم لك كل نقص، وفقدانها يجعلك معاقا حتى وإن اكتملت عندك النعم... فإن كان مفهوم المرض عجزا في وظيفةٍ أو تغيرا في عافيةٍ فهذا المرض بعينه...

ومن أشد أعراض هذا المرض الحرمان، الذي يمكن تعريفه بغيابٍ لبعض العناصر الضرورية لنمو الحياة العاطفية خاصة، وشخصية الفرد عامة، التي تنعكس عواقبه على الاتزان النفسي...

فقد كنا بحاجة لأمهاتنا ولآبائنا ولزوجاتنا ولأبنائنا، ننشد لهم، نريد أن نرمم شيئا من طفولة في نفوسنا تهشمت، نحتاج لحضن كشرنقة يعيد لنا ما فقدناه من عالم اللا محسوس واللا منظور...

كنت مستلقيا على برشي (سرير السجن) أتهيأ للنوم.. وصديقي ألحت عليه مشاعر الأبوة يبعد عني مقدار خطوتين على برشه، وتبدأ لغة الصمت بالحديث، ونحيب الحال يعلو صوته دون بكاء.. لغةٌ لا يفقهها إلا من أصيب بمرض الحرية.

يتقلب صديقي يمنة ويسرة، ثم يعدل جلسته لبرهة، ثم يقف في عالمه (غرفة السجن) ذات الثلاثة أمتار يروح ويجيء وعيني لا تراه، ولكن خبرت هذه الهمهمات وحفظت تلك السلوكيات وعرفت أنه أصبح ذبيح الشوق، فهي طقوس تتكرر ولكن يخبئها كل واحد عن الآخر.. ثم يعود باحثا كالملهوف بين مجموعة مقتنياته، ليطالع صورة لوجه ابنته أو ابنه.. ثم أسمع كأزيز المرجل على موقد النار؛ شهقاتٌ وزفراتٌ حرى ومخنوقةٌ كي لا يشعر به أحد، ولكن كنت أعرفها جيدا لأني شهدتها مرات ومرات...

رجولتك تحكم عليك بالقسوة مع نفسك، وسادية الظرف تمنعك من مزاولة عاطفتك، عصا غليظة من الشموخ الجبري تلاحقك في كل موقف إنساني وتمنعك من إنفاذه. ضجيج كبير من الصمت يجوب الأجواء، لغة تدرس في مدرسة الألم وكتب الأحزان بأقلام العذاب لا يفهمها إلا أهل هذه الأماكن، المصابون بمرض الحرية..

تتوحش عليك الذكريات وجاهدا تحاول الهرب.. تكاد تأكلُ كلَ عزيمة فيك، وتعصف بتلال الصبر في داخلك، فريح يوسف ما برحت قلوبَ المشتاقين مترددةً عليها..

أين فلان يا شباب؟؟  من يومين لم أشاهده في "الفورة" (ساحة السجن) وبعد زيارة له في غرفته وترحيب، صنعَ كوبا من الشاي، وسألته: عساك بخير وينك؟!!

فصمتَ.. وكررتُ ثلاثا، فأجابت عيونُه بشيء من الدمعات، أنا تعبان، مخنوق، مضغوط، أشعر أني أمر بمراهقة الشباب من جديد، أشتاق لزوجتي، أحن لأم العيال، محتاجها كثير ومش قادر أسيطر على تمرد نفسي وسطوتها.. حاسس حالي مريض وتعبان جدا..

أنت لست مريضا يا صديقي بل أنت إنسان.. أنت في قمة عافيتك الإنسانية وسلامتك البشرية، ولكنه مرض الحرية... وببعض مصبرات القول وحافظات الكلم نجتهد معه لنعيده إلى بستان الاتزان، وحديقة الرضا ليتنسم بعض هوائها لعله يتعافى..

كل شيء أمامنا يوقظ شيئا من الذكرى في داخلنا... كل شيء لا يشبه أي شيء... أشباه طعام وأشباه لذة وأشباه رائحة وأشباه حياة...

صديق آخر يتحدث مع محاميه ويطلب منه أن ينزله إلى المحكمة، فقال له المحامي: انتهت محاكمتك من 10 أعوام.. قال له: أريد أن أخرج لأسمع صوت السيارات وأرى الأشجار وأحضر شروق الشمس خارج الغرفة، أريد أن أرى الحياة..

نحتاج لرؤية شروق الشمس وجميل غروبها.. نريد أن نقبل أبناءنا ونحفظ خارطة أجسامهم، نريد أن نأكل كما تأكلون ونشرب كما تشربون ننام وقت ما نريد ونستيقظ متى شئنا.. نشتاق لهوائكم وسمائكم.. نريد مدا بصيرا يتجاوز الـ10 أمتار.. كم نرغب بتغيير منظومة الصوتيات عندنا.. وغيرها الكثير الكثير..

لذلك عندما ترى محررا يعيش بعض النعم لا تقل هيو مزبط حالو وصار قائد، واعلم أن كل شيء تراه فيه هو انعكاس لحالة الحرمان، ومحاولة منه للتعافي والاستشفاء من مرض الحرية، والتعويض عن سنين وأعوام كاد أن يفقد حياته فيها...

يحتاجون منا لأن نراهم وأن نسميهم أحيانا بغير كلمات الأسير البطل القائد فلان الفلاني ... بل

الإنسان الزوج فلان

الإنسان الأب فلان

الإنسان الابن فلان

الإنسانة الأم فلانة

الإنسانة الزوجة فلانة

وسيبقون أبطالنا وقادتنا وشاماتنا التي تزين وجه الوطن..

إلى لقاء بفجر حرية قريب..