في 26 حزيران 1944 وقف الرئيس الأمريكي هاري ترومان في إحدى قاعات مدينة سان فرانسيسكو عقب التوقيع على ميثاق الأمم المتحدة، وقال العبارة الآتية: "إن ميثاق الأمم المتحدة الذي وقعتموه للتو هو أساس صلب نبني عليه عالمًا أفضل. وسيحمدها لكم التاريخ. فبين انتصار أوروبا والانتصار الأخير، في هذه الحرب المدمرة، انتصرتم على الحرب نفسها.. ويستطيع العالم -ولديه هذا الميثاق- أن يستشرف زمنًا يتاح لجميع البشر المقدرون أن يعيشوا أحرارًا عيشًا كريمًا، وإذا فشلنا في استخدامه، فإنها ستكون خيانة لكل من قضى في سبيل أن نجتمع هنا أحرارًا آمنين لصياغته. وإذا سعينا لاستخدامه استخدامًا أنانيًّا -فيما يخدم مصلحة أمة واحدة أو مجموعة أمم- فإننا نقترف بالتساوي ذنب الخيانة ذاك".
ألقى الرئيس الأمريكي ذلك الخطاب التاريخي في جوٍّ من القداسة الممزوجة بنشوة النصر العظيم على دول المحور، حيث تحلق مندوبو خمسين دولة، حول طاولة مستديرة كبيرة وضع عليها النصوص التاريخية لميثاق الأمم المتحدة والنظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، ووراءهم أعلام الأمم الخمسين. وعمد كل مندوب -تحت إضاءة مبهرة- إلى توقيع الميثاق. وكانت الصين -بوصفها أولى ضحايا قوة المحور- أول الموقعين.
اليوم وبعد مضي خمسة وسبعين عامًا على تلك الواقعة التاريخية، ثبت للعالم زيف وكذب هذه المقولة، كما ثبت للعالم أن العبارات المنمقة والمختارة بعناية التي أطلقها الرئيس الأمريكي، ما هي إلا ستار من التضليل على واقع مظلم أُريد لهذا العالم أن يعيش فيه على امتداد الزمن منذ أن قيلت تلك الكلمات وحتى يومنا هذا.
هاري ترومان الذي تغنى بالإنسانية ومستقبل البشرية بعد توقيع ميثاق الأمم المتحدة على ما فيه من مبادئ سامية، كان هو ذاته الذي أمر بإلقاء القنبلة الذرية لأول مرة في تاريخ البشرية، ليزهق في ثوانٍ معدودة أرواح عشرات الآلاف من البشر، بمن فيهم من نساء وأطفال وشيوخ دون أن يهتز له جفن.
لقد أنشأت الأمم المتحدة في قبضة الظلم والطغيان، الذي استخدم الأمم المتحدة ومؤسساتها لممارسة الاستبداد العالمي، فباسمها حوصرت شعوب، وباسمها شنت حروب مدمرة، وباسمها عاش ملايين البشر في فقر مدقع.. وقهر مذل.. وجهل مطبق.
اليوم وبعد خمسة وسبعين عامًا، وبعد أن تفشى مرض كورونا في مدينة نيويورك وقتل الآلاف وأصاب مئات الآلاف في كل أرجاء الولايات المتحدة، يقف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ليقدم نفسه كرئيس دولة في حالة حرب ضد ما وصفه بعدو غير مرئي، قبل أن يضيف خلال ظهوره المتكرر في المؤتمر الصحفي بالبيت الأبيض "أرى نفسي بطريقة ما رئيسًا في وقت حرب، نحن نخوض حربًا، وهو موقف صعب جدًّا جدًّا".
إن تفشي مرض كورونا وضع البشرية أمام لحظة الحقيقة التي غابت عنها لسنوات طوال، وقد آن لهذه البشرية أن تسير على صراطها المستقيم الذي أمر به الله سبحانه وتعالى بعد أن تناسته فترة من الزمن، لقد أثبتت التجربة العملية أن النظام الدولي الذي أنشئ بعد الحرب الكونية الثانية ثبت فشله، كما ثبت فشل النظام الذي سبقه (نظام عصبة الأمم)، وذلك بسبب استئثار مجموعة من الدول على القرار الدولي، وتجييره لمصالحها الضيقة، وإهمال البشرية المُعذبة تواجه الجهل والفقر والمرض والجوع.
وما نتج عن ذلك من حروب واضطراب وهجرة غير شرعية، وإهدار موارد الكون في أمور لا طائل منها، ومحاولة كل دولة الاستئثار بالنفوذ والمصالح، التي تمكنها قوتها العسكرية أو الاقتصادية من الهيمنة عليها، وما واكب ذلك كله من صراع التسلح لدى كل الدول، والصرف على وسائل الفتك والدمار مبالغ خرافية من الأموال التي كان يمكن لها أن تطعم ملايين الأفواه الجائعة حول العالم.
نعم لقد فشل النظام الدولي في تحقيق الأمن والسلم الدوليين، وهما المعياران الأساسيان اللذان تشكل وفقًا لهما النظام العالمي متمثلًا في الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، وأصبح لزامًا على المجتمع الدولي البحث عن صيغ جديدة لتشكيل نظام عالمي جديد، يقوم على إعلاء القيم الإنسانية الحقيقية للبشرية، ويسعى بشكل حثيث لرفاهية البشرية وسعادتها، وذلك من خلال رؤية جديدة نتعامل مع البشرية ككيان واحد، يعيش على كوكب الأرض من حقه التمتع بكل موارد الكوكب أنى كان موقع سكناه، وذلك من خلال هيئة أممية تشرف على إدارة موارد الكوكب لصالح البشرية ككل، بحيث يتمتع كل فرد من البشر بهذه الموارد بنفس القدر الذي يتمتع فيه الفرد والآخر دونما تمييز، ويجب كذلك وضع نظام اقتصادي عالمي يشمل دول العالم كافة، يضمن أن يكون في العالم نظام اقتصادي واحد يحقق الرفاه لساكني الكوكب بعيدًا عن احتكار المواد الأولية أو الصناعات الثقيلة أو الخفيفة، وإقامة نظام صحي بإشراف أممي يتجاوز دور منظمة الصحة العالمية، بحيث يحظى كل سكان الكوكب بنفس الرعاية الصحية، ولهذه الغاية وجب تمويل هذا النظام عالميًا من خلال موازنة يشرف عليها الكيان الأممي الجديد، كذلك لا بد من إنشاء منظومة تعليمية متطورة، توفر نظامًا تعليميًا مع مراعاة الثقافات الدينية والعرقية المختلفة، وذلك منعًا لانتشار الجهل لدى بعض سكان الكوكب دون البعض الآخر.
فإذا ما تحققت هذه الغاية، أصبح لا مبرر للحروب أو الهجرة غير الشرعية أو التنازع حول الموارد، ويترك لسكان الأرض أن يعبدوا ربهم بحرية دونما تقييد لحرية العقيدة والعبادة تطبيقًا لقوله تعالى "لا إكراه في الدين".
ربما تكون هذه رؤية حالمة، ولكني أجد أنه لا مناص من العمل من أجلها، فلم يعد للبشرية من عذر في إفناء نفسها، وهدر مواردها، وإشقاء أجيال تلو أجيال، آن للبشرية أن تعيش السلام.. وتعبد ربها السلام.. إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.