الولايات المتحدة الأمريكية هي الحليف الإستراتيجي للكيان العبري، وتعهدته بالحماية منذ قرار الرئيس ترومان الذي دعم إقامته في فلسطين واعترف به عام 1948م, ثم مواقفها التالية _خاصة بعد عام 1967م_ التي جعلتها الشريك الإستراتيجي لضمان وجود الكيان العبري وتفوقه على جيرانه مجتمعين، وبالمناسبة استخدمت الولايات المتحدة حق الاعتراض (فيتو) 80 مرة منذ تأسيس الأمم المتحدة عام 1945م، ضد مشروعات قرارات قدمت لمجلس الأمن، 42 منها كانت ضد إدانة ممارسات الكيان العبري في المنطقة العربية، من بينها 31 ضد قرارات تخدم القضية الفلسطينية.
والآن تلوح إدارة الرئيس ترامب بـ(الفيتو) لإدانة تقرير مجلس حقوق الإنسان في مجلس الأمن الدولي، زاعمة أن الكيان العبري مستهدف في الأمم المتحدة، إذ انتقد الكندي مايكل لينك المقرر الخاص للأمم المتحدة بشأن الأراضي الفلسطينية بشدة سياسات الكيان، وممارساته القمعية تجاه الشعب الفلسطيني.
لماذا غضبت أمريكا كل هذا الغضب من تقرير محايد أنصف المظلوم وأدان الظالم؟!، ومن هنا يأتي التساؤل الدائم في جميع الأوساط خارج الولايات المتحدة الأمريكية: لماذا هذه المساندة غير المشروطة من جانب الولايات المتحدة للكيان العبري في جميع المواقف وتحت مختلف الظروف، مع وجود مصالح كبرى للولايات المتحدة مع الدول العربية؟!
كيف يمكن لدولة عظمى مثل الولايات المتحدة الأمريكية أن تنساق كلية وراء المصالح الإسرائيلية وتدافع عنها بقوة، وإن تعارضت مع مصالح جوهرية أخرى لها, أو تناقضت مع مبادئ كثيرة؟!
لا يكفي القول: إن الشعب الأمريكي مغلوب على أمره, تحركه المصالح اليهودية أو تسيره بعض العقائد الدينية، بل لابد أن يكون هناك شيء أكثر عمقًا يربط الولايات المتحدة بالكيان العبري، لأن السياسة الأمريكية متفقة من حيث المبدأ مع سياسات الكيان الاحتلالية والتوسعية، فتجربة الكيان _خاصة المستوطنات الإسرائيلية_ تكرار أو استنساخ لتجربة أمريكا نفسها في القرنين السابع عشر والثامن عشر.
فلعل أكبر سبب للتأييد الأمريكي للكيان يعود إلى النجاح الإسرائيلي والفشل العربي، فقد ظل المشروع الإسرائيلي مشروعًا مشكوكًا فيه حتى حرب 1967م, وعندها فقط تراجع المتشككون في سلامة هذا المشروع, واعتقدوا بسلامته وجدواه، ولذلك ليس غريبًا أن الموقف الأمريكي من الكيان منذ ولادته تغير تغيرًا نوعيًّا بعد عام 1967م، لكي يصبح تأييدًا معلنًا بلا تحفظ، فحتى عام 1967م كانت أمريكا ملتزمة بالاتفاق الثلاثي بين إنجلترا وفرنسا والولايات المتحدة بعدم تسليح الدول المتحاربة, ولذلك لجأت إلى ألمانيا في عام 1964م لتزويد الكيان بصفقة أسلحة، أما بعد عام 1967م فقد أصبح انحياز أمريكا إلى الكيان مطلقًا، وأحد أسباب هذا التحول هو النجاح الإسرائيلي في حرب عام 1967م، وفشل العرب المهين في تلك الحرب، ولم يقتصر الفشل العربي على عدم استعادة الأراضي السليبة، بل ظهر في معظم جوانب حياتهم اقتصادًا وسياسة، النجاح وحده يجذب التأييد ويضمن الاحترام، فلا أحد ينحاز للفاشلين، وإن كانوا على حق, ربما فقط على سبيل الصدقة، والصدقات حظها في السياسة قليل.
ليس هذا هو أول تقرير عرض أمام مجلس حقوق الإنسان في جنيف، وتضمن أن الكيان العبري دولة احتلال واستيطان وتمارس الإذلال الإنساني، وتقمع ناشطي حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بل سبقه كثير من التقارير الدولية في هذا الصدد، لكن هذه المرة كان التقرير أكثر صرامة، وإن أحبط فيما بعد بأول (فيتو) من إدارة الرئيس ترامب، كما أحبطت التقارير السابقة بفعل (الفيتو) الأمريكي المنحاز إلى الكيان؛ فالتقرير يضع الإدارة الأمريكية أمام المسؤولية، لوقف سياسات الكيان وممارساته القمعية تجاه الشعب الفلسطيني، وليس الدفاع عنه كي يستمر في هذا النهج، وقد أوصى التقرير بوضع الكيان في البند السابع، وهو بند التنفيذ، بصفته "الدولة" الوحيدة في العالم المستهدفة ببند خاص بها في أجندة مجلس حقوق الإنسان.