في مشهد مستوحى من أحداث العصور الوسطى، وبكل ما تحمل كلمات الغطرسة والعنجهية والغرور من معانٍ، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب صفقة القرن في 29/1/2020، حيث سول له شيطانه بعدما فكر وقدر، أن ليس للفلسطينيين إلا أن يرضوا بما قدره لهم، ثم نظر فرأى أن عليهم ألا يضيعوا الفرصة التي أنعم بها عليهم، ثم عبس وبسر فبشرهم بمزايا الصفقة الاقتصادية ومستقبلهم الموعود، ثم أدبر واستكبر فتوعدهم بقبول ما يمليه عليهم وإلا فإن سوء العذاب ملاقيهم، ولا راد له إلا رضاهم بما يهديهم إليه من سبيل الرشاد، وتهيأ ترامب لدخول العام 2020 بصفقة القرن تلك، وما ظن أن الله سيصليه سقر الدنيا قبل سقر الآخرة، وما هي إلا أيام حتى أتاه أمر الله، فحلت به كارثة القرن "وباء كورونا" فجعل الله صفقته حصيدًا كأن لم تغن بالأمس، وصارت صفقة القرن نسيًا منسيًّا.. وخضع صاحب صفقة القرن صاغرًا لرب كارثة القرن، فأصبح صدره ضيقًا حرجًا كأنما يصعد في السماء أو تهوي به الريح في مكان سحيق.
تتهلل أساريره تارة.. ويعبس تارة.. ويبشر قومه بنهاية الكرب تارة.. ويتوعدهم تارة، وأصبح لا يملك لنفسه من أمره شيئًا، فدخل ذليلًا من الكوة التي سبقه إليها النمرود وقارون وفرعون.
وسيخلد التاريخ ذكره بالسوء كما خلد الذين من قبله، وتبقى إرادة الله هي الغالبة وسنته باقية لا تبديل لها جل شأنه.
نعم لم يعد أي ذكر لصفة القرن، وشُغل العالم بكارثة كورونا، ولم تعد أخبار الحروب والفن والرياضة تسترعي انتباه الناس، وأصبحت عقولهم وقلوبهم متعلقة بأمل واحد وواحد فقط، وهو أن يتمكن أحد العلماء من ابتكار لقاح لهذا المرض الذي أعجز البشرية وضربها في مكمن قوتها وجبروتها، فانهارت أنظمة كانت تعد الأقوى في العالم في مجال الصحة، ليسيطر الرعب على القادة والزعماء خوفًا من انهيار الاقتصاد، وما قد يواكبه من انهيار دول، وما يترتب علي ذلك كله من تغير في النظام العالمي المستقر منذ الحرب العالمية الثانية، لقد أثبت كورونا أن العالم هش ضعيف، وما مظاهر القوة العسكرية والاقتصادية والعلمية إلا وهم يقرره قول الله سبحانه وتعالى: "وخلق الإنسان ضعيفًا".
لقد آن للبشر إعادة التفكير في طريقة حياتهم وعلاقاتهم مع بعضهم بعضًا، والتخلي عن موروثات العهود السابقة والبدء بوضع نظام عالمي جديد، قائم على إعلاء قيم الإنسانية من عدل ومساواة وكرامة، لتحقيق قول الله عز وجل "ولقد كرمنا بني آدم" يشارك في إعداده كل المفكرين من مختلف بلدان العالم ودون إقصاء لأحد، لإعادة رسم مستقبل البشرية بما يضمن لها البقاء والاستمرار في حالة من التعاون والتكاتف المبني على المساواة بين أعراق وألوان وأديان كل البشر، وإعادة توزيع ثروة الأرض لينعم بها كل من يعيش على سطحها، دونما نظر إلى مكان وجود هذه الثروة فهي ملك لبنى آدم أنى وجدت، فلا مجال بعد كورونا لاستئثار شعوب بخيرات الأرض دون شعوب، ولا مجال لاستئثار شعوب بالرفاه العلمي دون شعوب، ولا مجال لاستئثار شعوب بالرفاه المادي والتكنولوجي والاقتصادي دون شعوب.
فالأرض بيت البشر جميعًا، تظلهم سماء واحدة، وتشرق عليهم شمس واحدة، ويتنفسون هواء واحدًا، أصلهم واحد ومصيرهم واحد، وما بين أصلهم ومصيرهم حياة عليهم أن يحسنوا معيشتها.
كورونا علمنا درسًا قاسًا، وويل لنا إن لم نتعلم.