سؤالُ تخلّفِ العرب والمسلمين عن المساهمة العلميّة في الجهود المهمومة بمواجهة فيروس كورونا، مثيرٌ، بالرغم من أنّه لا جديد في هذا التخلّف يستدعي التساؤل، أو يستدعي استعادة السجال المزمن الذي من هذا النوع. وهذا بالضبط هو مكمن الإثارة، أي العجب من هؤلاء الذين لا يكفّون عن اجترار الحجج المستهلكة كلّها؛ كلّما استجد حدثٌ يمكن لهم التوسّل به لإثبات موقف مسبق من تخلفّ العرب، وربط بعضهم ذلك بالإسلام الذي يدين به أكثر العرب، كما أنّ التخلّف لا ينحصر في العرب بل في عموم المسلمين.
وهؤلاء الذين يحاولون إدانة الإسلام بمواربة كهذه مكشوفة، أو يجتهدون في تكريس تبعيتنا للغرب، أو يعانون من نقص مزمن إزاءه.. أطياف لهم منطلقات متفاوتة، بل إنّك قد تجد منهم من يُدرج نفسه في سلك الاشتغال الديني، أو يصنّف نفسه إسلاميّا، لكنه مهجوس باستنارة زائفة، تدفعه دائما للتأكيد على خطيئة "قوقعتنا" التي نتوهم فيها أفضليتنا الأخلاقيّة على غيرنا، بينما غيرنا هذا هو المستغرق في جهود إنقاذ البشريّة!
لا يعني خطأ هؤلاء باتجاهاتهم المختلفة، خلّونا من المشكلات العميقة والمعقّدة، ولا تخلّفنا، وإنّما ما نتوقف عنده هو ركاكة الاحتجاج؛ مما يجعل بنيانه كلّه منهدّا، وهذا بصرف النظر عن إرادات تسييج الاصطفافات والمواقف بمثل هذه المستجدّات وإعادة توظيفها. وأوّل ما ينبغي قوله في هدم هذا البنيان.. غفلة هؤلاء عن السبب المباشر لتخلّفنا، وهو ثنائية الاستعمار والاستبداد التابع.
إنّ ترك الأسباب الواضحة الماثلة في الواقع والمنتصبة للعيان، للبحث عن أسباب ثقافية، هو غرق في المشكلة، لم نزل فيه على الأقلّ منذ هزيمتنا الكبرى عام 1948، مرورا بأختها العام 1967، حينما كانت اتجاهات ثقافية وحزبية تعزوها لمنظومتنا الدينية والثقافية، دون نظر في وقائعنا الماديّة. وهذا المسلك الثقافوي محبّذٌ لمثقفي الأنظمة هروبا إلى الأمام، وهو مسلك رثّ يمكن كشفه عطنه بسهولة، بردّ السؤال عليهم: لماذا لا تظهر الإسهامات العلميّة المؤثّرة من دولهم التي يحارب فيها حكّامها "الغيبيّة الدينية" و"ظلامية الإسلاميين"؟! وبدلا من ذلك، يذهل عن هذه البدهية الجلية بعض المشتغلين في الشأن العام، ممّن يفترض أنّهم من أهل النقد والمعارضة لتلك الأنظمة، لكنّ الخلاف الأيديولوجي، وهوس الادعاء بالاستنارة، يوقعهم في ورطات ساذجة كهذه.
والحاصل، أنّ هؤلاء المُسارعين دائمًا إلى تعييب ثقافتنا بوصفها عندهم السبب الأساس للتخلّف العلمي، لا يقبعون بدورهم في مختبراتهم، وإنّما يثابرون على أجهزتهم الإلكترونية، لسبّ الإسلاميين، والسخرية من المتدينين، أو لإعادة اختراع العجلة من جديد، بالإلحاح على قضايا دينية فُرِغ من نقاشها من قرون، ولا أثر لها في واقعنا العلمي، وأمّا المشتغلون بالعلوم الدينية فإنّهم في الجملة لا يزعمون أنّ علومهم بديلٌ عن العلوم التجريبية.
والدين نفسه لم يزعم أبدا أنّه بديل عن العلم، وإنما وفي حين قدّم للإنسان الإجابات الممكنة في حدود الاختبار الدنيوي عن أسئلته الفلسفية الأساسيّة؛ فتح له الإمكان الديني لاستكشاف الأنفس والآفاق، وأظهر تسخير السماوات والأرض له، وبيّن تمييزه بالعلم والقدرة على التعلّم، وجعل اكتشاف مكنونات التسخير للإنسان نفسه، وفي ذلك مزيد تفضيل للإنسان الذي تُرك فيه ما يمكّنه من تطوير معارفه، وتوظيف المُسخّر له بأدواته المودعة فيه. وفي المقابل، يزعم تيار الإلحاد العلمي، قدرته على الاستغناء عن الدين بالعلم، وهو الزعم الذي لم تزل مسيرة البشر تثبت سخفه وهزاله.
لا علاقة، إذاً، لعقيدة التوكّل وطلب الشفاء من رب السماء؛ بهذا التخلّف العلمي الذي نعانيه، ولا معنى لهذه المقارنة الغبيّة بين أسباب السماء وأسباب الأرض، فما من متدين في الأرض إلا ويقصد الطبيب لعلاجه وهو يعتقد أنّ الأمر بيد ربّ السماء وحده، وهو لا يشعر بأدنى تناقض في هذا، ولا علاقة لأحكام دخول الخلاء بتأخّرنا عن علوم الفضاء، والذين يسخرون من أحكام الإسلام التي تربط الإنسان على مدار وقته بربّه لمنحه التوازن النفسي الكافي في الاختبار الدنيوي، هم بدورهم لا يفعلون أكثر من هذه السخرية، ولا نعرف واحدا منهم وصل الفضاء بكدّه العلميّ، بينما يغلب على الإسلامين الحركيين التخصّص الجامعيّ في العلوم الطبيعية والتجريبية عموما!
والاستعمار والاستبداد التابع، هو السبب الحقيقي المؤكّد لما نحن فيه، وأيّ أسباب أخرى لا يمكن لنا تلمّسها وعلاجها، إلا بعد تصفية هذا السبب المباشر الحاضر المرئي المعروفة نتائجه وآثاره في حياتنا. وحتّى لا يكون حديثنا عنهما شماعة نعلّق عليها تخلّفنا، كما سيقول البعض بالتأكيد، فلا بدّ من تصفيتهما، وإزاحتهما من طريقنا، لنجابه الأسباب الأخرى.
إنّ ميزانيات الصرف والإنفاق، والسياسات المتعدّدة، لا يحدّدها إسلاميّ معارض، ولا فقيه بين كتبه، ولا متدين عاميّ يتحرّى رضى ربه عن كلّ حركة وسكنة له، ولا هذا المثقف التابع، أو ذلك المتظاهر بادعاء التميّز والاختلاف، وإنّما هو الحاكم، وهو حاكم تابع للاستعمار، ولا يجوز للحظة نسيان الكارثة التي نحياها بسبب سياساته المتعدّدة. والكلمة أمانة، فلتوضع في موضعها!