فلسطين أون لاين

اللهم أحبها كما أحبتني

...
صورة تعبيرية
بقلم / د. علاء اللقطة

أخي علاء.. أتذكرُ يوم قلتُ لك في إحدى المرات شاكيًا مرارة الغربة، ووحشة العزوبية، وتأخر قطار الزواج حتى بلغتُ المحطات الأخيرة، قلتَ لي يومها: إن الله سيرزقني امرأة طيبة كطيبتي، وقرأتَ: "الطيبون للطيبات".. فكان ذلك؛ امرأة قل نظيرها، عابدة لله صابرة محتسبة، كريمة الأحاسيس والمشاعر، وقفت إلى جواري في أحلك الظروف دون كلل أو ملل، لم تشكُ يومًا أو تبتئس، أحبتني بلا حدود، وأعطتني بلا قيود..".

بهذه الكلمات بادرني د. سميح رفيق الغربة وتوْءَم الروح بعد عشر سنوات من تفرّق السبل بيننا، فقد آثر العودة إلى أرض الوطن ليكمل رسالته في خدمة أهله ووطنه، فمسؤولياته كأخ أكبر جسيمة، وواجباته لا تعد ولا تحصى.

أعادتني هذه الرسالة إلى الزمن الجميل، زمن الصحبة الصالحة، المجردة من الأهواء والمصالح، القائمة على الحب والبذل والإيثار، كانت تجمعنا ظروف كثيرة وواقع متشابه، طلابُ علمٍ في ريعان الشباب، يحملون طموحًا وأملًا، وقلوب ذويهم طارت معهم تظللهم من حرّ الصيف وكرب الخريف وبرد الشتاء.

ينامون متى أرهقهم التعب لا فرق بين بيتي وبيته، يُصلح الطعام من يستيقظ أولًا، ويتبادلون الحديث وهم منهمكون في واجبات البيت: فذاك يغسل، وهذا يكنس، وثالث يتفقد لوازم البيت، ورابع يتلمس أخبار الوطن من راديو "سوني" ياباني الصنع يلتقط الموجات البعيدة بأقل "تشويش" ممكن، وإذا حان موعد الصلاة يصطفون جنبًا إلى جنب كأنهم بنيان مرصوص، يستقوون بها على عثرات الطريق، ونوائب الدهر.

كانوا يمنون أنفسهم بأحلام الغد، وزوجة المستقبل، يقصون على بعضهم البعض جانبًا منها، وإذا ما جاء دور سميح يغبطون "زوجته المستقبلية"، فإلى جانب حنانه وطيبته فهو "رجل بيت" بامتياز يجيد الطهي والكي والترتيب، ومولع بالصغار ورعايتهم، فكانت طفلتي سارة تقبل عليه وتحتضنه دون الآخرين، وكأن الله قد أعده لمهمة لا يعلمها إلا هو.

كَبُر الجميع بسرعة، ولكلٍّ منهم وجهة هو موليها، يضربون في الأرض يبتغون رزقا، فانتشروا في بلدان شتى، تزوجوا وأنجبوا، وغرقوا في مشاغل الحياة إلا من تلك الذكريات العزيزة، باتت تجمعهم كأنهم روح واحدة في أجساد شتى، يتلمسون أخبار بعضهم البعض، وتفيض نفوسهم فرحًا لكل نجاح، وتنفطر قلوبهم مرارة وأسى إذا ما أصاب أحدهم مكروه..

كان ما يميز د. سميح الطيبة الغالبة، والحس المرهف، والمشاعر الجياشة، والوفاء الجميل، لذلك كنت على يقين أن الله لن يضيعه، وأن كل شيء عنده بقدر، وأن الهدية السماوية قد تتأخر لكنها لن تتخلف أبدا، وقد يسبقها تمحيص واختبار لكن العاقبة للصابرين..

أكمل د. سميح رسالته: ".. أنجبت لي خمسة أقمار يشبهنها خَلقا وخُلُقا، لكن الولادة الأخيرة لم تكن كسابقاتها، لقد احتضنتُ طفلتي الخامسة وعدتُ بها وحيدا بعدما فارقت "هبة" الحياة، بكتها جدران المشفى وطرقات الحي وزوايا المنزل، عدتُ ولم تتجاوز أكبر بناتي العشر سنوات لأرعاهن وأربيهن وحيدا..

أخي علاء: لا عزاء لي اليوم إلا أن يجمعني الله بها في الجنة، وأن أقوم على الأمانة التي استودعتني إياها على أكمل وجه، اللهم أحبها كما أحبتني، وأكرمها كما أكرمتني..

أرجو أن تدعو لها، وأن تحاول أن ترسم أو تكتب شيئا أهديه لها تخليدا لذكراها في يوم الأم، وشكرا".