صعب أن تحاول نثر الزهور على رفات مَن
سقاك الحب لسنين بكلمات قد تُقرأ وقد لا تُقرأ وإذا قُرئت ينساها القراء غدًا أو
بعد غد، وفي الحقيقة لست أكتب هذه الكلمات بغرض تجميل الوجه وإنما إيفاءً لدين
عظيم أُحاول لملمة كل طاقاتي لتسديد أقساطه علّي أفلح!
والكتابة الصعبة تكون غالبًا للشخص الصعب ذاك الذي لا يقل ألف شخص، بل يقل نفسه، فهو بحدّ ذاته يمثل حالةً وأنموذجًا يبقى راسخًا يهُز أوتار القلب وينبض بقوة على جباه المساكين، الشخص الذي يعرفه الفقراء ولا يعرف الأغنياء، الذي يكملنا بنواقصه، الذي يطهرنا بصلواته، المدهش حدّ البساطة، المتقد بزمزم الوضوء، هي أمي قلبها معراجي وروحها الإسراء.
بعد خمس سنوات وثمانية أشهر من غياب أمي جسدًا لا روحًا ورائحة ما زلت أرى ذلك النور الذي كان يومض في عينيها دائمًا ولا يُعرَف عن سرِّه شيء، كيف استطاعت أن تكون أم في جميع أحوالها وحالاتها وصفاتها وأوقاتها بصورةٍ تُدمي قلبي الآن الذي يفتقدها وأنا أسترجع مشهد الباكيات لحظة توديعها وهُن يرددن "إنها أمّنا جميعاً".
بالمناسبة عزيزي القارئ مقالي ليس عبارة عن رسائل لن تصل من فتاة عشرينية إلى أمها الغائبة، لا ليس كذلك بالمطلق بل هو تحليل بسيط لواقع نعيشه اليوم، فدعنا نتناقش سويًا.. إنني أتساءل بكل منطقية: هل كل سيدة تستحق منح لقب "الأمومة"؟
أرى أن كلمة "أم" تتجاوز حدود ما تم التعارف عليه من كونها الوالدة أو المربية. الأمر لا يتعلق بفكرة إنتاج المزيد من الأجيال الجديدة أو تربيتها فقط ولكني أتحدث هنا عن فكرة أن تكون/تكوني أمًا بقلبك وروحك، سواء كنت رجلًا أو امرأة، عزباء أو متزوجة، والدة أو عقيمًا، بغض النظر عن طبيعتك، ولكن ماذا عن قلبك؟
دائمًا ما تتردد على مسامعي كلمات منها، "فلانة أم الجميع"، "أبي هو أم وأب في الوقت نفسه"، "إنها أمي التي لم تلدني" أو "هي ابنتي التي لم أُنجبها"، والعديد من العبارات التي تُردد بعد شعور جميل يكون امتلك تلابيب القلب وأسر مساكن الروح بلمسات دافئة وأشواق مخبوءة؛ لذلك أرى أن الأمومة هي هبة وليست مهمة.
ثم ماذا عن آلاف الحالات المجهولة النسب المتواجدة في العالم بلا أبوين، أولئك الذين نكتفي بذكرهم في أخبار الحوادث ثم نمر عن الخبر مرورًا سريعًا دون أن نُكلِف أنفسنا بالوقوف للحظة فيما هم تقف حياتهم للأبد، حقيقة مُخجلة نرفض أن نتعامل مع حالاتها بإنسانية محملين إياهم فاجعة حقيقة وجودهم رغم معرفتها المجردة بمدى طهارة كفيهم البيضاء.
هل تلك الأمهات تستحق لقب "الأمومة"؟، وهل يستحق أولئك الأبناء الشعور بالذنب الضخم الذي توقعون أوزاره عليهم كل يوم وألف ألف يوم بتاريخ 21 مارس من كل عام؟
بصراحة أنا لم أكتشف هذا التاريخ إلا بعد رحيل أمي، كان أكثر من عادي قبل خمس سنوات سابقة، أتساءل هل العالم يتآمر عليّ؟ أم أن مجتمعنا بدأ حديثًا الاحتفال بهذا اليوم معتبرًا إياه عيدًا ثالثًا لا أعرف تحت ماذا تم إدراجه، هل هو وطني أم ديني أم عائلي، وإذا كان عائليًا فما ضرورة مكبرات الصوت التي تصدح بأغنية "ست الحبايب" في مُختلف الطرقات تلك!
أُقدر جدًا قيمة وعظمة الأم في حياة كل شخص منّا، سواء كانت والدته أو أمه الروحية _إن وُجِد_، وأتفهم جيدًا أن لذلك النهر من العطاء حقًا علينا ولو بوقفة بسيطة، نقبل يمينه، نهديه زهرة، نتغنى بحبه؛ ولكني أستغرب أسلوب الاحتفال الشعبي بالأماكن العامة دون أدنى تقدير لمشاعر بعضنا بعض وأحوال كلٍ منّا على اختلافها.
ماذا عن قلوب أبناء الشهيدة مهدية حمّاد، ماذا عن قلوب كل أبناء الشهيدات؟، ماذا عن دموع أبناء 19 أمًّا في سجون الاحتلال؟، وما الغاية حقًا من إقامة الاحتفالات والأعراس بالشوارع احتفاءً بـ"عيد الأم" وأنتم تلُكون قلوب أمهاتكم بالمنازل؟
الغريب أنك تجدهم يزاحمون بالصور والمنشورات في مواقع التواصل الاجتماعي تبجيلًا وتوقيرًا وحبًا وعزفًا ووردًا بأمهاتهم حتى تظن أنهم أكثر خلق الله برًا بوالداتهم وهم بالواقع عُصاة، وما عتبي على ذلك بشيء فقد صدق من أسماه عالمًا افتراضيًا رغم كل ما يقتحمه من خصوصيات حياتنا وتفاصيلها.
هناك سؤال أول وأخير يراودني هل لذلك الأب نصيب من هذا المهرجان ولو بقُبلة؟ رجل يقف على مدار أيام وتواريخ وسنين بشموخ وإباء ورحمة ورأفة يصنع من قلوب أمهاتكم أمومة، ألا نوقف الكلمات لأجله مرة! للآباء وللأمهات كل القبعات تُرفع وكل الزهور تهدى على اتساع المدى وافقين مبجلين وراكعين مُقبِلين.