ما نراه اليوم وما لا نصدقه ولا يخطر على بال بشر أن يغمض الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش عينيه عن قضية بل مصيبة وكارثة إنسانية حلت بالشعب الفلسطيني ولم يكترث كثيرا لهذا الأمر, وبكل دم بارد قام بسحب تقرير أصدرته لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا "إسكوا" أدانت فيه جدار الفصل العنصري الذي أنشأته (إسرائيل) في مطلع الألفية، ويتهم التقرير (إسرائيل) بفرض نظام فصل عنصري "أبارتهايد" على الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، وهنا أتساءل: ما الذي أغضب الأمين العام وجعله يتنكر من التقرير مع العلم أن التقرير استند إلى آراء لجنة محايدة من الخبراء والمختصين في القانون الدولي وهم مكلفون من الأمم المتحدة وعملوا بروح النزاهة والحيادية؟ كما أن الأمر واضح وضوح الشمس للقاصي والداني أن هذا الجدار مخالف لكل القوانين والأعراف والاتفاقات الدولية بما فيها اتفاقية جنيف الرابعة لأنه عمل على فصل الأسر والعائلات وعزل منازل ومدارس ومستشفيات ودور العبادة والأحياء والشوارع وضم مزيد من الأراضي الفلسطينية لصالح (إسرائيل) وحول حياة الفلسطينيين إلى جحيم.
لكن رد اللجنة على القرار غير المبرر من الأمين العام كان له صدى كبير باستقالة الأمينة التنفيذية للجنة السيدة ريما خلف، لتضع علامات تساؤل على مدى نزاهة المنظمة الدولية، في ظل ما اتضح من ضغوط تمارسها الولايات المتحدة و)إسرائيل (حتى يتم اتخاذ أي قرار في الأمم المتحدة ومنظماتها يدين ممارسات الاحتلال الإسرائيلي التي تشكل انتهاكات متواصلة للقانون الدولي.
هذه ليست المرة الأولى التي يلغى فيها تقرير من لجنة دولية ولم تكن المرة الأخيرة التي تنحاز فيها الأمم المتحدة لـ(إسرائيل) التي أصبحت بدعم أمريكي هي التي تتحكم في قراراتها، فليس خافيا على أحد أن الضغوط التي مورست هنا كما أعلنت أيضا السيدة خلف، مصدرها الاحتلال الإسرائيلي وحلفاؤه، وهو ما يوجه ضربة جديدة لدور المنظمة الدولية ووكالاتها ولنزاهتها المفترضة.
إن استقالة خلف تأتي ليس فقط من باب الاحتجاج على سحب التقرير وإلغاء عمل اللجنة، بل جاءت لتكشف مجددًا مدى الظلم الذي لحق وما زال بالشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، كما يكشف الازدواجية المقيتة التي تتعامل بها بعض الدول النافذة في المنظمة الدولية خدمة لـ)إسرائيل), ولما تعتقد أنه مصالحها الحقيقية من جانب، ولكن من جانب آخر أكدت استقالة السيدة خلف أن هذا التقرير ليس الأول الذي يتم سحبه وأن عملية السحب لم تتعلق بمضمونه ظاهريًا، بل بسبب ضغوطات سياسية لدول تمارس انتهاكات صارخة بحق شعوب المنطقة بما في ذلك انتهاكات لإعلانات حقوق الإنسان، وهو ما يعري حقيقة هذا النظام الدولي الذي تلجأ إليه نفس هذه الدول عندما ترى أن من "مصلحتها" التغطية على تدخلها السافر في شؤون الدول الأخرى تحت ستار القرار الدولي.
فمنذ تقرير "غولدستون" الذي أدان جرائم الاحتلال في غزة لم يجرؤ أحد على إدانة )إسرائيل) على جرائمها ضد الشعب الفلسطيني. سُحب التقرير، ولكنك يا ريما فعلت وأصررتِ في ظروف عالمية معقدة لا يجرؤ فيها أحد على انتقاد )إسرائيل) وانتقاد تصرفات الأمين العام للأمم المتحدة.
صحيح أن خلف خسرت منصبها، لكنها انتصرت على الظلم في معركة الحق، فانتصرت للقضبة الفلسطينية وانتصرت أمام شعب مكلوم ينادي بالحرية والعدالة وانتقمت له من الاحتلال حين غلبت ضميرها المنحاز للعدالة وحقوق الإنسان وقضايا الشعوب المناضلة من أجل الحرية على اعتبارات المنصب الأممي، وستبقى استقالة خلف وصمة عار على جبين المنظمة الدولية وأمينها العام التي ما زالت صامتة على الاحتلال الإسرائيلي غير الشرعي والمأساة المتواصلة للشعب الفلسطيني.