تحول وباء فيروس كورونا إلى القضية السياسية والاقتصادية الأولى في العالم، بل القضية المركزية لوسائل الإعلام الدولية. ولعل الوقت ما زال مبكرا لظهور دراسات علمية تقويمية للتعاطي الاعلامي مع جائحة كورونا، بيد أنه من الممكن طرح ملاحظات وابداء تفسيرات لما يجري ويدور بشأن تفاعلات وسائل الإعلام مع هذه الجائحة.
ولعل أبرز الملاحظات أن ضخامة الحدث ووقع المصيبة وانتشارها قلبت المسلمات وربما شكلت تحديا للنظريات الإعلامية. فما هو معلوم أنه في عصر ما بعد الحقيقة يبرز الإعلام باعتباره أهم أدوات الصراعات الدولية.
ففي هذا العصر، كانت الحقائق الموضوعية تبدو أقل تأثيرا في تشكيل الرأي العام في مقابل الشحن العاطفي وتأثير المعتقدات الشخصية. وعصر ما بعد الحقيقة ظل عصرا يحل فيه الكذب محل الصدق، والعاطفة محل الحقيقة، والتحليل الشخصي محل المعلومة، والرأي الواحد محل الآراء المتعددة.
غير أن جائحة كورونا عدلت هذه الصورة المقلوبة وفرضت تعطيلا ولو مؤقتا لواحدة من نظريات الاعلام المهمة.
فوفقا لنظرية دوامة الصمت Spiral of Silence Theory، فإن هناك توظيفا سياسيا منفلتا لوسائل الإعلام في إطار هذه النظرية التي تنطلق من فكرة أن وسائل الإعلام تمثل المصدر الأول للمعلومات في المجتمع وتعكس الرأي الشائع أو المُجمع عليه، أي ما يتصوره الناس على أنه "الرأي السائد" في زمن معين تجاه قضية معينة.
وتشير مُعطيات هذه النظرية إلى أنه كلما تبنّت وسائل الإعلام اتجاهاً ثابتاً ومتسقاً من إحدى القضايا لبعض الوقت، فإن الرأي العام يتحرك في اتجاه وسائل الإعلام نفسها. أي إن الأهمية الفعلية للحدث لا تضع أجندة وسائل الإعلام بل يتم توجيه الرأي العام ربما قسرا نحو وجهة بعينها تقف من ورائها مصالح سياسية واقتصادية.
في شأن كورونا اليوم يبدو أن وسائل الإعلام تستجيب مرغمة لكارثة كورونا على نحو موضوعي، أي أن هذه الكارثة تحدد أجندة الإعلام وليس العكس. فهي مدفوعة وبصورة مطلقة بمدى قوة قضية كورونا، حيث يبدو الأمر خطيرا ومرعبا، بل ومحبطا في آن واحد. وعليه فبإمكان وسائل الإعلام التأثير على القرارات السياسية والاقتصادية، وبالطبع إنقاذ الأرواح ووقف عبث السياسيين وأصحاب المصالح التي تقف حجر عثرة أمام قيام وسائل الاعلام بدور ايجابي يرفع عن المجتمع الدولي إصر هذه الكارثة.
لقد كان التركيز في الكوارث السابقة في حال انتفاء النوايا السيئة، على الاحداث الهامشية وابرازها بشكل درامي تشويقي بعيدا عن ابراز واقع الكارثة بنهج كلي وشامل. فعلى سبيل المثال عند تغطية كارثة فيضانات؛ يتصدر المشهد صور درامية لطائرات هليكوبتر تنقل ضحايا إلى أماكن آمنة وقصة امرأة تضع مولودها تحت شجرة في انتظار عمال الانقاذ.
اليوم وبكل صراحة نحتاج لتغيير هذا النمط من المعالجات الانصرافية والمساعدة في التركيز على الوقاية وليس العلاج فحسب، من خلال الانذار المبكر والشرح، وعلى الجهود التالية بشأن إعادة البناء والتعافي.
الصورة المعدّلة اليوم كشفت لنا من خلالها وسائل الإعلام أن الحروب المقبلة ليست حروباً تقليدية عبر إطلاق الصواريخ والمدافع والطائرات الحربية وارتداء الزي العسكري، والاشتباك بالأسلحة عن قرب؛ بل هي حروب بيولوجية بإعمال البحث العلمي والتقنيات الحديثة.
فضلا عن الكشف عن وضع الاقتصاد العالمي بالأرقام والتحليلات؛ فالدول التي تعاني أعلى خسائر في التصدير بسبب تداعيات فيروس كورونا هي الاتحاد الأوروبي، حيث تبلغ الخسائر نحو 15.6 مليار دولار، والولايات المتحدة 5.8 مليارات دولار واليابان 5.2 مليارات دولار وكوريا الجنوبية 3.8 مليارات دولار وتايوان 2.7 مليار دولار وفيتنام 2.3 مليار دولار.
ووسائل الاعلام اليوم أمام تحدي رغبة المجتمع الدولي - ولا تمثله هنا الحكومات - في تحديد مسؤولية انتشار فيروس كورونا ومدى تقصير وتجاهل الحكومات لوضع أنظمة إنذار مبكر ضد مثل هذه الاخطار. فهذه مجالات تمثل أهمية بالنسبة للصحفيين للبحث والتقصي، لأنها تسهم في جهود منع وقوع مثل هذه الكارثة لاحقا والتخفيف من آثارها بقدر الامكان حال وقوعها في المستقبل.
وعلى المؤسسات الاعلامية أن تستشعر الحاجة لضمان وصول المساعدات لمن يستحقونها، وتأتي مساءلة المسؤولين ضمن الاغراض الاساسية لوسائل الإعلام التي تعمل بشكل مهني، مع الاشارة إلى أن زيادة معدلات الكوارث، تستدعي ضرورة التنبّه إلى الاحتياط باعتماد المزيد من الاجراءات من جانب الحكومات للقيام بالإنذار المبكر والوقاية، وعليه فإن الحد من مخاطر الكوارث يصبح قضية سياسية ملحة في المستقبل القريب.
إن من الحقائق التي تتكشف يوما بعد يوم أن مفهوم الحرية والديمقراطية في النظم الإعلامية المختلفة لا سيما الغربية يبدو ذا طابع جدلي نتيجة لتحديات ومحكات ماثلة، ولذا يبدو النظام الإعلامي الليبرالي من خلال مزاعم المسؤولية الاجتماعية مثاليا لا واقعيا.
ويحضرني هنا قول المفكر الأمريكي الراحل إدوارد سعيد في مؤلفه عن "الموضوعية في الإعلام": "إنه من البديهي أن الاتهامات التي وجهت للإعلام الغربي بشأن التغطية الأحادية يمكن أن توجه أيضا للإعلام الأمريكي"، وجوهر حجة إدوارد سعيد أنه على الرغم من العدد الضخم للصحف والمجلات والمحطات التلفزيونية والإذاعية وحرية التعبير، إلا أن الإعلام الأمريكي كله يلتزم بوجهة نظر معينة، وعليه فإن هذه المؤسسات تخدم وتروج لسياسات ورؤى مرتبطة بالشركات الكبرى التي تسيطر على السياسيين، وهذا هو العامل الأساسي الذي يقرر ما الذي يصبح خبرا وكيف يتعين تقديمه.