منتصف 2017، أعلنت الأمم المتحدة أن قطاع غزة بحلول 2020، لن يكون صالحًا للعيش، لكن المفارقة العجيبة أن هذه البقعة الجغرافية الصغيرة، باتت بحلول العام نفسه واحدة من أكثر المناطق الآمنة أمام عدو دولي وخفي يجتاز الحدود ويصيب ويقتل آلاف البشر.
إنها جائحة فيروس "كورونا- COVID 19"، التي اجتاحت العالم في وقت قياسي، وفرضت ما يشبه الحصار الذاتي على دول عظمى.
في قطاع غزة، يبدو أن الأمور لا زالت تسير على طبيعتها إلى حدٍ ما مع اتخاذ سلسلة إجراءات حكومية وصحية وقائية للحيلولة دون وصول الفيروس الذي ظهر في الصين وتسلل خفية إلى قارات العالم.
في الصباح تشهد حركة السير ضعفًا كبيرًا هذه الأيام، مع التزام طلبة المدارس والجامعات بقرار لجنة المتابعة الحكومية بتعليق الدراسة حتى نهاية مارس/ آذار الجاري، وهو ما يجعل السائقين الخارجين للعمل على الخط مبكرًا يلفون الشوارع بمركبات خاوية.
حتى حركة المارة، فهي تقتصر لدى كثير من المواطنين على تلبية الاحتياجات الرئيسة، لكن الإجازة البيتية لدى آخرين كانت فرصة للتنزه والخروج مع شعورهم بالاطمئنان لعدم وصول "كورونا" إلى القطاع الساحلي المطل على البحر الأبيض المتوسط بطول 40 كيلومترًا.
وفضل مواطنون الذهاب إلى ميناء غزة وقضاء أوقات جميلة برفقة عوائلهم وانتشرت جموع أخرى على رمال البحر امتدادًا من شاطئ بلدة بيت لاهيا، شمالاً، حتى شاطئ مدينة رفح، جنوبًا.
وتزامن ذلك مع إجراءات وقائية اتبعها المواطنون رغم أن غزة لا زالت خالية من العدو العالمي الذي صنفته منظمة الصحة العالمية أنه "جائحة" عالمية، مع إصابة ووفاة الآلاف إثرها حول العالم.
من بين هذه الإجراءات، غسل اليدين، وتجنب الاقتراب من الأشخاص الذين تبدو عليهم أعراض مرضية مثل السعال والعطس، وتطهير الأشياء والأسطح، وهذا ما يحرص عليه المواطن أحمد أبو سلطان البالغ (52 عامًا).
يقف أبو سلطان ساعات طويلة أمام عربة مخصصة لبيع المشروبات الساخنة والمكسرات في ساحة الجندي المجهول بمدينة غزة، ويبدأ عمله من الساعة الثامنة صباحًا، ويمتد حتى ساعات المساء لتحصيل بعض الشواكل التي يعيل بها أسرته، وقوامها سبعة أفراد.
ويمسك أبو سلطان ورقة صغيرة، سلمها له فريق من طلبة الكلية الجامعية، كنشرة توعوية حول أعراض فيروس "كورونا"، وطرق الوقاية اللازم اتباعها، ويطلع أبو سلطان الوافدين إليه لشراء المشروبات المختلفة.
أما مصطفى ضهير البالغ عمره (35 عامًا)، يبدو شخصيًا غير مبالٍ بفيروس "كورونا" وغير آبهٍ به.
وبمجرد ما يفتح ضهير كفيه ويريها لأحد، سيدرك من حجم الشقوق التي تركتها مهنة العمل في البناء عليها، مدى الشقاء الذي لاقاه في حياته بعد 17 سنة متصلة في هذه المهنة، حتى انه أصبح يعتقد أن الفيروس وإن لامس يديه، فإنه سيموت ولن يحيا من جديد "لأن مناعتي قوية"، كما يقول.
وكان ضهير منهكًا خلال العمل في إحدى البنايات بمدينة غزة التي شهدت اغلاقًا لمعبر رفح، المخصص للسفر، مع توقف العمل جزئيًا في حاجز كرم أبو سالم المخصص لدخول البضائع، جنوبي قطاع غزة، تزامنًا مع إجراءات للحجر الصحي اتخذتها وزارة الصحة مبكرًا لمواجهة العدو العالمي.
وقال: إنه لم يعد قلقًا على أطفاله بعد تمديد تعليق الدراسة حتى نهاية الشهر الحالي، مبديًا دعمه لأي إجراءات وقائية تمنع وصول الجائحة لغزة.
أما الحكيم عمر جحجوح (24 عامًا) والذي يعمل حكيمًا في استقبال قسم الباطنة بمجمع الشفاء الطبي -كبرى مستشفيات قطاع غزة- قد بدا مستاءً إلى حدٍّ كبير من تعامل بعض الزائرين للمجمع، وتعمدهم نشر الإشاعات بوجود إصابات بـ"كورونا".
وفي نفس الوقت أبدى سعادته لتدخل المباحث الطبية ومحاسبة مروجي الاشاعات داخل الشفاء.
وأكد خلو المجمع من أي إصابات، وإن كانت بعض الحالات خضعت لفحوصات طبية اشتبه بها بعد عودتها من الخارج إلى غزة عبر بوابة معبر رفح.
وكانت وزارة الصحة بغزة أكدت أن غزة خالية من "كورونا" -الفيروس التاجي الأول الذي يسبب جائحة في تاريخنا- بحسب منظمة الصحة العالمية.
ويتناغم المواطنون بغزة مع الإعلانات والقرارات الصادرة عن وزارة الصحة ولجنة المتابعة الحكومية التي تشكلت لمواجهة "كورونا"، وأكدوا لـ"فلسطين" التي استطلعت آراءهم خلال جولة ميدانية، أمس، استعدادهم للالتزام بما يصدر من توجيهات وقرارات للوقاية من المرض ومنع وصوله.
ويعتقد هؤلاء أن غزة بغنى عن فيروس تحتاج مواجهته إلى تكلفة عالية وإمكانية متطورة للتصدي له، كما حصل في الصين أحد أكثر بلدان العالم تطورًا، والتي استطاعت حصر الفيروس في المنطقة التي نشأ بها مدينة "ووهان" مع تعافي عدد كبير من المصابين به.
ويتطلب ذلك اتخاذ أقصى درجات الحيطة والحذر والوقاية للحيلولة دون وصول هذا المخلوق الخفي لقطاع غزة الذي لا تزيد مساحته عن 365 كيلومتر مربع بتعداد سكاني يفوق مليوني نسمة، ويعدّ واحدًا من أكثر المناطق السكانية اكتظاظًا.