"هذه العقدة لا تُحل إلا بأنْ أتنحى جانبًا وأترك لغيري أن يقومَ بما يمنعني ضميري من القيام به.."؛ هو الضمير تسلحت به "الامرأة الحديدية" ريما خلف، لتقول بكل جرأة: "لا"، في وجه نظام الفصل العنصري الإسرائيلي "الأبارتهايد".
بدا واضحًا أن الأمينة التنفيذية للجنة الأمم المتحدة الاجتماعية والاقتصادية لغرب آسيا "إسكوا"، صممت على عدم بيع ضميرها مقابل ضغوط إسرائيلية ودولية، فقدمت استقالتها دون تردد للأمين العام الأممي الذي أمر بسحب تقرير أصدرته اللجنة، يتهم سلطات الاحتلال الإسرائيلي بتأسيس نظام "الأبارتهايد".
"أنا لا أستطيع أن أسحب، مرة أخرى، تقريرا للأمم المتحدة، ممتاز البحث والتوثيقِ، عن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. غير أنني أدرك أيضا، أن التعليمات الواضحة للأمين العام للأمم المتحدة لا بد من أن تنفذ"؛ هذه تحديدا هي "العقدة" التي أوضحت خلف ملامحها.
ذلك بعد أن أكدت تعرض أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش لضغوطات دفعته لسحب تقرير "إسكوا" من موقعها الإلكتروني، قائلة: "ليس خافيا علي ما تتعرض له الأمم المتحدة، وما تتعرض له أنت شخصيا، من ضغوط وتهديدات على يد دول من ذوات السطوة والنفوذ، بسبب إصدار تقرير الإسكوا".
ويسود اعتقاد على نطاق واسع، بأن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، تنحاز بشكل تام لـ(إسرائيل)، وتمنع أي انتقاد لها في أروقة الأمم المتحدة ومؤسساتها.
وربما لم يكن الكثيرون يعرفون خلف قبل هذا الموقف الذي وصفه الفلسطينيون بأنه مشرف، مقابل ترحيب سلطات الاحتلال الإسرائيلي باستقالتها التي قبلها غوتيريش، أول من أمس.
وخلف هي اقتصادية وسياسية أردنية، شغلت مناصب وزارية في المملكة الهاشمية، ولدت عام 1953 في الكويت، وحصلت على شهادة بكالوريوس في الاقتصاد من الجامعة الأمريكية في بيروت عام 1976، ودكتوراة في علم الأنظمة من جامعة ولاية بورتلاند الأمريكية عام 1984.
وشغلت عددا من المناصب الرفيعة في الأردن، حيث تولت منصب وزيرة الصناعة والتجارة من عام 1993 حتى 1995، ووزيرة التخطيط من 1995 إلى 1998، ونائبة رئيس الوزراء من 1999 حتى 2000.
كما أنها قادت مسيرة إصلاح وتحديث الاقتصاد تزامنا مع تنفيذ جملة من الإجراءات الاجتماعية لتنمية القدرات البشرية والحد من الفقر، قبل أن تنتقل إلى العمل في الأمم المتحدة كمساعدة للأمين العام، ومديرة إقليمية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
عجز إسرائيلي
ويعود تولّي خلف منصب الأمينة التنفيذية لـ(إسكوا) في بيروت، لعام 2010، عدا عن أنها ساهمت في المنتديات الإقليمية والدولية المهتمة بالحوكمة العالمية والتنمية في البلدان العربية، وشاركت في لجان دولية منها اللجنة رفيعة المستوى لتحديث إدارة مجموعة البنك الدولي.
وأطلقت خلف، مشاريع لتعزيز الحكم الرشيد وحقوق الإنسان والتنمية البشرية في الدول العربية، كما أنها حازت أوسمة دولية منها جائزة الأمير كلاوس، وجائزة الملك حسين للقيادة، وجائزة جامعة الدول العربية للمرأة العربية الأكثر تميّزاً في المنظمات الدولية عام 2005.
وأدرجت صحيفة فايننشال تايمز عام 2009 اسم خلف، بين أشهر 50 شخصا رسموا ملامح العقد الأول من القرن الـ21.
"أؤكد إصراري على استنتاجات تقرير الإسكوا القائلة بأن (إسرائيل) قد أسست نظام فصل عنصري، أبارتهايد، يهدف إلى تسلط جماعة عرقية على أخرى"؛ لم تنحنِ خلف للضغوط الإسرائيلية، بل أبدت الوفاء لضميرها، شارحةً الوقائع القائمة على الأرض.
وفضحت خلف، سلطات الاحتلال وداعميها، الذين عجزوا عن المس بمهنية تقرير (إسكوا) بشأن نظام الفصل العنصري الإسرائيلي في الأراضي المحتلة، مشددة على أن "الأدلة التي يقدمها التقرير قاطعة"، متابعة: "تكفيني هنا الإشارة إلى أن أيا ممن هاجموا التقرير لم يمسوا محتواه بكلمة واحدة. وإني أرى واجبي أن أسلط الضوء على الحقيقة لا أن أتستر عليها وأكتم الشهادة والدليل".
وكانت محكمة العدل الدولية أصدرت قرارا في 2004 يقضي بعدم شرعية جدار الفصل العنصري الذي تواصل سلطات الاحتلال بناءه على الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية.
وبقبول استقالتها من منصبها كأمينة تنفيذية لـ(إسكوا)، تكون خلف قد غادرت هذا الموقع بالفعل، لكنها لم تغادر أبدًا إنسانيتها، ولم تغمض عينيها عن الحق والحقيقة، رغم الضغوط التي جعلت من دول كثيرة تصاب بالصمم والبكم والعمى.