يكاد لا يختلف اثنان على أن المقاومة وبكل أشكالها هي الوحيدة القادرة على دحر الاحتلال، والحفاظ على الثوابت الفلسطينية وحماية الهوية الوطنية واسترجاع الحقوق.
ولا شك بأن تنوع أشكال المقاومة وتكاملها، من شأنه أن يوصل صاحب الحق إلى مراده، وفي هذا لا بد من قليل من التفسير ووضع بعض النقاط على الحروف، في وقت أصبح فيه "الانبطاح" والتطبيع مع العدو الصهيوني -عند البعض- أحد تفسيرات المقاومة واسترداد ما سلب من حقوق.
منذ ما يزيد عن مائة سنة والتجربة النضالية الوطنية الفلسطينية في المقاومة وتعدد أشكالها وهي شاخصة أمامنا تعمل على دحر الاحتلال؛ منذ الاحتلال البريطاني لفلسطين في العام 1918 وضم وعد بلفور إلى مقررات عصبة الأمم في كانون الثاني/يناير من سنة 1920 واعتماد "الوعد" المشؤوم في صك الانتداب البريطاني على فلسطين من قبل عصبة الأمم في نيسان/ابريل 1920، وحتى يومنا هذا.
والسؤال الموضوعي الذي يُطرح وهو مشروع ومحق، منذ أن تشكلت عصبة الأمم، وبعدها الأمم المتحدة عام 1945 حتى اليوم، ماذا حققت تلك المنظومة الأممية للشعب الفلسطيني من إنجازات نوعية ؟! نتحدث عن قضايا الشعب الفلسطيني الإستراتيجية؛ من دحر للاحتلال، أو عودة للاجئين، أو تفكيك للمستوطنات التي تعتبر جريمة حرب وفق القانون الدولي حسب تقرير اللجنة الدولية لتقصي الحقائق حول المستوطنات الإسرائيلية في 13/1/2013 ومخالفة لاتفاقية جنيف الرابعة لسنة 1949، أو وقف عملية التهويد في القدس، أو تغيير الاحتلال لأسماء المدن والقرى الفلسطينية، أو تطبيق قرار محكمة العدل الدولية في لاهاي بعدم قانونية بناء جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية المحتلة لتاريخ 9/7/2004، أو مصادرة المياه في الضفة الغربية، أو محاصرة المدن والقرى الفلسطينية، أو اعتقال الأطفال، أو سياسة هدم المنازل المستمرة، أو قتل المتظاهرين سلمياً وبدم بارد والتنكيل بجثثهم، أو مصادرة ممتلكات الفلسطينيين، أو الانتهاكات بحق الأسرى، أو محاولة تكريس يهودية الدولة.. والقائمة تطول..
الإجابة وبكل موضوعية.. لا شيء، لا بل يحقق العدو -وبغطاء دولي مباشر وغير مباشر- المزيد من الاختراقات وإقناع آخرين بزيف الرواية والتبريرات الصهيونية، والمزيد من التطبيع مع دول عربية وغير عربية، وتطوير للعلاقات مع أخرى كانت مساندة للحقوق الفلسطينية، وآخرها كان تراجع 13 دولة أوروبية وعلى رأسها ألمانيا ولأول مرة منذ العام 1948 عن التصويت لصالح "شعبة حقوق الفلسطينيين في الجمعية العامة للأمم المتحدة في 4/12/2019 تلك المعنية بتفعيل دور "لجنة ممارسة الشعب الفلسطيني لحقوقه غير القابلة للتصرف"، وخداع رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة تيجاني محمد باندي حسب ما جاء في خطابه في اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني في 29/11/2019 بأن نسبة اللاجئين من الشعب الفلسطيني هي فقط 43% دون إضافة أي تفسيرات للنسبة التي ذكرها، مع أن الحقيقة تشير إلى أن اللاجئين الفلسطينيين يمثلون أكثر من 60% من العدد الإجمالي الذي يصل إلى أكثر من 13 مليون فلسطيني حول العالم.
لذلك، على أهمية تعدد أشكال وأنواع المقاومة؛ الدبلوماسية، السياسية، القانونية، الشعبية، الإعلامية..، ومهما وصل الأمر بالشعب الفلسطيني ومعه المتضامنون من استخدام لتلك الوسائل المقاوِمة المشروعة، ومحاولات تشكيل لوبيات ومجموعات ضغط داعمة في الأمم المتحدة وغيره من أنواع الفعاليات المختلفة والتي لا يتسع المقام لذكرها لتنوعها وكثرتها..، ومهما كان الوقت والجهد الذي يُعطى لهذا، هناك في المقابل من يعطي أضعاف أضعاف الوقت والجهد وميزانيات غير محدودة كي يدحض أي إنجازات.. لا ننكر بعض الإنجازات المهمة التي تحققت هنا وهناك، لكنها لا ترتقي لممارسة ضغط نوعي لتحقيق نتائج على مستوى صانع القرار الدولي.. وإنما المزيد من الأماني والحفظ في الأدراج والأرشيف.
لن تتحقق أي نتيجة نوعية على مستوى ليس فقط الحفاظ على الثوابت الوطنية الفلسطينية وإنما أيضاً حماية تلك الثوابت واسترجاع الحق المغتصب، إلا بالمقاومة المسلحة كعنوان أساسي أوّلي - لا ثانوي- يتصدر كل أنواع المقاومة وهي ساحة النزال الحقيقية.
تعزيز المقاومة المسلحة ودعم استمراريتها - قولاً وفعلاً وفكراً- وترسيخها في اللاوعي لا سيما لدى الأجيال الصاعدة، ينبغي أن ينبع من تكريس حقائق دامغة لا لبس فيها برفض مصطلح ما يسمى بـ"سياسة الأمر الواقع"، والتعايش معه، والقبول فيه، ورفض تجزئة الحقوق، والاستحضار الدائم لتجربة دولة الجزائر الشقيق التي تخلصت من نير الاحتلال الفرنسي بعد 133 سنة وطردت المستعمر وفككت مستوطناته وقدمت في سبيل ذلك المليون ونصف المليون شهيد حتى نالت استقلالها في العام 1962. وفي الحالة الفلسطينية المهم أن لا تنحرف البوصلة مهما طال الزمن أو قصر.
لا بد من العودة إلى جذور الاعتقاد الوطني الراسخ الذي كرسه الميثاق القومي الفلسطيني لسنة 1964 والميثاق الوطني الفلسطيني لسنة 1968 والتأكيد على أن الشعب الفلسطيني لا زال في مرحلة تحرر وطني ولن يبادر إلى خطوات تقرير مصيره إلا في أرضه التي اقتُلع منها، وأن فلسطين من البحر إلى النهر، ومن رأس الناقورة إلى أم الرشراش، هي أرض فلسطينية مغتصبة من الكيان الصهيوني، وبأن القدس عاصمة فلسطين الأبدية، وأن هناك 8 ملايين لاجئ فلسطيني يجب أن يعودوا إلى بلادهم ويستعيدوا أملاكهم والتعويض عليهم، وأن الصهاينة المحتلين لفلسطين يجب أن يعودوا من حيث أتوْا من روسيا وبولندا وألمانيا.. وبأننا بصراع وجود مع هذا المحتل وليس نزاعا، وبأن خيار المقاومة المسلحة هو طريق تحرير فلسطين.
لم تكن نتائج الهدن والاتفاقيات والمفاوضات وحدها إلا احتلال لكامل فلسطين، وطرد أكثر من نصف شعبها، وتحويله إلى لاجئ ومهجر خارج وداخل فلسطين، في مشروع صهيوني عنصري إحلالي مستمر منذ ما قبل نكبة فلسطين 1948 حتى يومنا هذا، لم يشهد التاريخ له مثيل، قائم على سرقة أراضي الغير واستجلاب ملايين اليهود من كل دول العالم ليقيموا في منازل الفلسطينيين أصحاب الأرض الأصليين.. إلى أن وصلنا إلى مرحلة الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني ثم نقل السفارة الأمريكية إلى القدس في تحدٍ سافر لإرادة المجتمع الدولي، ثم ضم الجولان، ثم الإعلان عن ضم أجزاء من الضفة الغربية، ونية الاحتلال ضم غور الأردن وضم مستوطنات إلى الكيان مقابل ضم قرى ومدن المثلث إلى دولة فلسطين المزعومة، والإعلان عن جريمة القرن لتصفية القضية الفلسطينية، في عربدة سياسية دبلوماسية إعلامية تقودها الإدارة الأمريكية والكيان الصهيوني دون اكتراث لأي ردود أفعال أو تداعيات.
تتدحرج كرة التطبيع مع العدو الصهيوني وبسرعة، وبجرأة غير عادية، لم تكن لتتحقق لولا تخلي البعض ومنذ عقود عن فكرة أن المقاومة المسلحة هي الطريق لتحرير فلسطين، حتى أنه لم تعد القضية الفلسطينية عند البعض من قادة العرب هي القضية الأولى، والحديث يجري عن لقاءات أخرى مرتقبة ربما تجمع بين رؤساء دول عربية وزعماء وأمراء دول إسلامية مع الصهيوني نتنياهو.
دهس بضعة جنود من الاحتلال في الضفة الغربية، أو قتل أحد الجنود.. لا بل بالون حارق يطلق من غزة باتجاه المغتصبات، كفيل بأن يعطل خطط أصحاب القرار في الكيان الصهيوني.
واهم من يعتقد أن رحيل جنود الاحتلال الصهيوني عن قطاع غزة سنة 2005 وتفكيك المستوطنات دون قيد أو شرط كان بإرادة أو برغبة الاحتلال، أو أن اندحار الاحتلال عن جنوب لبنان سنة 2000 كان تطبيقاً لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 425 لسنة 1978.. لم يكن إلا بفعل المقاومة المسلحة وحدها..
وعلى أهمية المطالبة بتحقيقه منذ 72 سنة، واهم من يعتقد بأن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 لسنة 1948 سيعيد لاجئا فلسطينيا واحدا إلى بلده، أو أن الكيان الصهيوني الغاصب سيطبق أيا من القرارات والمعاهدات الدولية التي تبناها المجتمع الدولي نفسه، والذي أصلاً لم ينصف الشعب الفلسطيني في قراراته الجائرة والتي لم تكن لتصدر لولا ضعف النفوذ والتأثير الفلسطيني والعربي والإسلامي والمتضامنين في المنظمة الدولية، وليس انتهاءً بقرار الجمعية العامة غير القانوني رقم 181 لتاريخ 29/11/1947 بتقسيم فلسطين دون استشارة أصحابها الأصليين وتقديم ما لا يملك لمن لا يستحق من العصابات الصهيونية الغزاة.
موازين القوى هي التي تحكم وهي التي تحدد المسار. لن يكون للشعب الفلسطيني أي قوة وأي نفوذ وتأثير، ولن تنجح ممارسة أي نوع من أنواع المقاومة وفي أي محفل من المحافل العالمية، إذا ضعُفت المقاومة المسلحة ولم تُحقق وبالتوازي مع ممارسات المقاومة الأخرى المكاسب الإستراتيجية على مستوى إنهاء المشروع الصهيوني، حينها وحينها فقط يتوقف مسلسل الانبطاح وتسترجع الحقوق وتتحقق الانتصارات، فالعالم يحترم الأقوياء والأقوياء فقط، ولا مكان للضعفاء فيه.