تحاول "صفقة القرن" وأصحابها، إقناع الشعب الفلسطيني بأنه هزم في نضاله ضد الاحتلال، والاستيطان الاستعماري، ونظام الفصل العنصري.
ومن دون فرض الشعور بالهزيمة لا يمكن "لصفقة القرن" أو أي من بنودها أن تمر، بكل ما تتضمنه من إهانات لتاريخ الشعب الفلسطيني، ونضاله، ومستقبله.
وتكرس بعض وسائل الاتصال الاجتماعي، التي تراقبها أجهزة الاحتلال، وتغذيها بكل طاقتها، لبث الشعور باليأس والإحباط لدى الفلسطينيين.
ويفترض أصحاب "صفقة القرن" أن مشاعر الاستياء والغضب الفلسطينية التي تتدفق عبر هذه الوسائل، وهي مشاعر مبررة تمامًا، تعبر عن شعور بالهزيمة.
لكن محللي صفقة القرن يخطئون تمامًا إن فسروا الأمور بهذه الطريقة.
فهم يخلطون، وأحيانا عن قصد وخبث، بين هزيمة الشعب التي لم تحدث، ولن تحدث، وبين هزيمة الوهم الذي ساد في أوساط واسعة، بعد "عملية السلام"، وتوقيع اتفاق أوسلو، بإمكانية الوصول إلى حل وسط مع المنظومة الحاكمة في (إسرائيل)، في ظل اختلال ميزان القوى الذي نشأ تدريجيًّا بعد الاتفاق.
وهو وهم استند إلى الاعتقاد بأنه إذا قدم الفلسطينيون التنازل التاريخي الكبير، وقبلوا بدولة صغيرة في الضفة الغربية وقطاع غزة بما فيها القدس الشرقية، أي في أقل من نصف ما أقره مشروع التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة للدولة الفلسطينية، سيحصلون على السلام، وعلى دولة حقيقية.
سلوك كل حكومات (إسرائيل)، من باراك وحزب العمل، إلى شارون، ونتنياهو، كان موجهًا لنسف ذلك "الحل الوسط"، ولاستخدام المفاوضات من أجل كسب الوقت، ولم يوجد في (إسرائيل)، ولا يوجد، منذ نشوئها وحتى اليوم، حزب حاكم واحد يقبل بحق الفلسطينيين في دولة حقيقية، بل اُستبدل ذلك المفهوم، كما هو مقترح في "صفقة القرن"، بحكم ذاتي هزيل، على أراضٍ مقطعة الأوصال، وخاضع تمامًا للسيطرة والهيمنة الإسرائيلية.
لم يوجد حزب صهيوني حاكم واحد، ولا يوجد، يوافق على أن تكون القدس عاصمة لفلسطين، أو يوافق على تقسيمها، ولم يوجد ولا يوجد حزب حاكم واحد يوافق على إزالة المستعمرات الاستيطانية، أو على حق العودة ولو لعدد قليل من اللاجئين الفلسطينيين.
لم يهزم الشعب الفلسطيني، الذي لم يتخلَّ أبناؤه وبناته عن حقوقهم، أو عن حقهم في النضال من أجلها، ولكن الذي هزم هو الوهم بإمكانية تحقيق هذه الحقوق كليًّا أو جزئيًّا، دون النضال لتغيير ميزان القوى المختل، وتعديله لصالح الشعب الفلسطيني.
ويخطئ من يظن أن المرارة الناجمة عن "زوال الوهم"، وعن الإحساس بفشل ثلاثين عامًا مما سمي "مسيرة السلام"، التي آمن كثيرون أنها طريق مختصر للوصول إلى بعض الحقوق، ستؤدي إلى انهيار إرادة الشعب الفلسطيني.
ما نراه، وما نلمسه، خصوصًا لدى الأجيال الشابة، هو عكس ذلك تمامًا، ما نراه هو العودة إلى الجذور، وتعاظم يتصاعد يوميًّا، في الإرادة على تحقيق الحرية، والكرامة، وبأسلوب مختلف عن ما جرب سابقًا، وفشل.
لم يهزم الشعب الفلسطيني بل هُزم الوهم لديه، وسيهزم بصورة أكبر وهم الذين ظنوا أنهم يستطيعون ترويضه بالخداع السياسي والاقتصادي.