تنشط في فلسطين هذه الأيام، ولا سيما في القدس والضفّة الغربيّة، مبادرة يسمّيها أصحابها بـ"الفجر العظيم"، وتهدف إلى حشد الفلسطينيين في صلوات الفجر في مساجدهم. بدأت هذه المبادرة في المسجد الإبراهيمي في الخليل، الذي يعاني التقسيم المكاني؛ بتخصيص حيّز كبير منه للمستوطنين الصهاينة، يُحجب عنه الفلسطينيون، فضلا عن حصار المسجد وإحاطته بأدوات التحكّم الاستعماري؛ من حواجز، وبوابات حديدية، وحراسة إسرائيلية، بينما يسعى الاحتلال لفرض التقسيم المكاني على المسجد الأقصى، بعدما فرض التقسيم الزماني بالفعل.
ظهور المبادرة في المسجدين الإبراهيمي والأقصى، تظهر معه إرادة المواجهة والحماية؛ بالاستناد إلى أوّل أدوات المواجهة التلقائيّة في هذا السياق، وهي عمارة المسجد بالناس، فيصير قلبه كتلة من الناس، وتفيض هذه الكتلة سورا وسياجا. وإذا كانت هذه الصورة بدهيّة باعتبار طبيعة المسجد المخصّص لاجتماع الناس، وللتوجيه الديني المباشر لعمارة المساجد، فإنّ العدوّ في المقابل اتخذ من الأمر نفسه سبيلا للهيمنة على المسجدين وتقسيمهما، وذلك بادّعاء حقّ ديني له فيهما؛ يطوّر عليه دعاية استعمارية يرفع عليها إجراءاته الاستيطانية باستقطاب المستوطنين وباجتراح الممارسة الاستيطانية في الواقع، وهو ما يتطلب دفع المستوطنين لغزو المسجدين، وقد أفضى ذلك إلى ما سبق وصفه من مآلات استيطانية مفروضة على المسجدين.
يحتاج ذلك إلى ممارسة مقابلة، بدفع الفلسطينيين للاحتشاد في المساجد، على الأقل في أوقات الصلوات. وبهذا تكون مبادرة "الفجر العظيم" ضربا من التدافع، بدفع الغزوة بحشد مقابل، بالرغم من أنّها في أصلها ممارسة طبيعية، فما جُعلت المساجد إلا لاجتماع الناس فيها للصلاة لله تعالى.
انتقال المبادرة من المسجدين إلى بقيّة مساجد الضفّة، هو وصل بالمضمون النضالي للمبادرة، فضلا، بطبيعة الحال، عن مضمونها الدينيّ المحض، فالمبادرة، على المستوى الذهني والتعبوي، تستحضر معها قضيّة المسجدين، وخاصّة المسجد الأقصى، ثمّ تعيد للمساجد دورها الطليعي الذي قامت به تاريخيًّا في مواجهة الاحتلال. فقد عُرِفَت الانتفاضة الأولى في بعض الأدبيات بأنّها انتفاضة المساجد، وسبق للاحتلال في ذلك الوقت وأغلق عددا من المساجد، ثمّ شكّلت المساجد نقطة انطلاق المظاهرات التي افتُتِحَت بها انتفاضة الأقصى.
الأهمّ في هذا السياق، هي القيمة الروحيّة والتعبويّة للمسجد في شحن الفلسطينيين بالقيم القادرة على التجاوز بهم النمط الذي فُرض عليهم بهدف إعادة هندسة وعيهم في السنوات الأخيرة، لأجل تحييدهم عن القيام بواجبهم الطبيعي في مواجهة الاحتلال، وإغراقهم باهتمامات تتناقض بالكليّة مع ذلك الواجب، بتسخير جملة من السياسات المتضافرة، الثقافية والاقتصادية والأمنية والسياسية، هذا فضلا عن كون الفلسطينيين جزءا من هذا العالم، وتطالهم سياسات العولمة النيوليبرالية بطبيعة الحال.
هذه المبادرة، بالرغم من طبيعيتها؛ كونها في أصلها واجبا دينيّا يُؤدّى في مكانه المخصّص، قد تصطدم بما يحتويها، ويردّها عن تمدّدها، بالنظر إلى ما سبق بيانه من حجم العقبات التي تعاكِسُها، ولا سيّما في أجواء مشوبة بانقسام الفلسطينيين وتنافر برامجهم وسياساتهم، وبالتالي صعود مخاوفهم المتعارضة، الأمر الذي يُحوِج في المقابل إلى دعمها وتعزيزها.
من نافلة القول، إنّ هذه المبادرة تكشف عن عمق الخير الذي في الناس، ورغبتهم في التغيير، وسأمهم من ذلك النمط الماديّ الذي أريد إغراقهم به، بيد أنّ المهمّ في الأمر كلّه، هو أنّ هؤلاء الناس هم أهل البلد، وساكنوها، والمرابطون فيها، فلا إمكان لحماية البلد من الاستيطان ودفع غزوته عن الناس إذا فُرّغ من أهله، أو إذ صار البلد بظروفه القاسية طاردا لأهلها. ولا معنى لمفهوم الرباط دون مرابطين، ولا سبيل لعمارة المسجد دون مصلّين، وهذا يعني أن أوجب الواجبات، على القائمين على أمر الناس من أيّ موقع كانوا، هو تعزيز صمود الناس داخل فلسطين، لا اجتراح سياسات عكسيّة تنفّرهم من البلد وتدفعهم إمّا إلى اليأس أو الهجرة.
وبالإضافة إلى تعزيز صمود الناس، يلزم الخطوة لاستمرارها مدّها إلى ساحات أخرى، سواء داخل فلسطين أو إلى البلاد العربية والإسلامية، ووصلها في الوقت نفسه بقضيّة المسجد الأقصى. وأحسب أنّ هذا ممكن في عدد من البلاد التي يمكن للجاليات الفلسطينية، أو بعض من يمكنهم العمل من المهتمين بالأمر الفلسطيني العام، نشر المبادرة، لو انتبهوا للأمر وأدركوا أهمّيته.
والحاصل أنّ المرء لا يعدم الوسيلة، وأنّه لا ينبغي اليأس من الناس، وأنّ ما هو طبيعي وبدهي وتلقائيّ قد يكون من أوّليات ما لا بدّ من تعظيمه في سياقات الصمود والتغيير.