لم يتفاجأ الشعب الفلسطيني بهذه المؤامرة الكبيرة فقد عايش أزمات متلاحقة، وشهد محطات عدة، فمنذ أن احتلت فلسطين وهو يدفع الثمن من دمائه وحقوقه، سنوات مرت وتمر عليه ورياح المؤامرات تتواتر لكنها في كل مرة كانت نتيجة خيانات ومبادرات عربية تلهث وراء الاحتلال وتتساوق معه في محاولة لإرضائه وتثبيت حكمها والتخلص من هذه القضية التي تشكل صداعًا لا يتوقف لبعض الأنظمة في المنطقة، وتساوق بعض الفلسطينيين وراء مشاريع وهمية في طريق السلام المخضب بدماء الفلسطينيين الأبرياء، والغوص أكثر في مسار طويل من مفاوضات التيه التي أدخلت القضية في نفق مظلم، وأشغلت شعبنا سنوات طويلة وهو يرقب ضوءًا يزهر ببناء الدولة الفلسطينية والتخلص من الاحتلال.
الصفقة أكدت حقيقة أن هذه المفاوضات هي مسرحية هزلية كان يراد منها كسب مزيد من الوقت لخداع الفلسطينيين، وتثبيت حكم الاحتلال، والإجهاز على ما تبقى من حقوق ومقدسات، وفرض واقع جديد يكون فيه الفلسطينيين أمام واقع صعب، يجبرهم على الرضوخ والاستسلام. بينما بقى المفاوض الفلسطيني مجرد كمبرس سيئ السمعة يقوم بأدوار على الهامش فلا يمارس دور البطولة، ولا يؤثر في مسار حلقات هذا المشهد، وعاجز عن المشاركة في إخراج نهاية مثمرة للشعب الفلسطيني، حيث استغلت (إسرائيل) هذه الفترة لتبييض صفحتها السوداء وتقديم نفسها للعالم وكأنها الحمل الوديع الذي ينشد السلام ويريد التوصل لحلول مرضية مع الفلسطينيين.
في الوقت الذي أصيب فيه المفاوض الفلسطيني بالعمى فلم يستطِع التمييز أن (إسرائيل) كانت تتمدد في بناء المستوطنات، وتتوسع شرقًا وغربًا في تدعيم سيادتها وتقضم مزيدًا من الأراضي، وتقتل الفلسطينيين صباح مساء، وتوغل في عدوانها وجبروتها، وهو ما زال يترنح بالحقائب الدبلوماسية ويطير من دولة إلى دولة للقاء الإسرائيليين، لعله ينال فتات عرض إسرائيلي لتسويقه لشعبنا على أنه انتصار، الأمر الذي دفع بعض الأنظمة للظهور علانية في هذا المشهد، بعد أن خلعوا ثوب الخجل، بل خلعوا ثوب الوطنية والعروبة، ولبسوا ثوب الصهيونية، ليرتموا في حضن العدو الإسرائيلي، في حالة جلبت لهم عار لا يمكن تطهيره إلا بإزالتهم من عروشهم فهذا واجب الشعوب التي ما زالت مقهورة، وتأن من بطش الأنظمة القمعية في المنطقة، وتحمل وفاء للقضية الفلسطينية وشعبنا العظيم. فكانت موجة التطبيع الحلقة الثانية في جسر طويل من الانبطاح والاستسلام، لقد هرول العرب لبناء صداقات مع (إسرائيل)، وقدموا كل فروض الطاعة، وتوددوا لإقامة تحالفات لدفع الخطر الداهم الذي يتهدد أنظمتهم في المنطقة، لم يجدوا إلا الحضن الإسرائيلي للاحتماء به، فالشعوب ناقمة عليهم، ومصالحهم يتهددها رياح التغيير. لذلك قدمت فلسطين اليوم ككبش فداء على طريق الرضا الإسرائيلي لأنها العقبة أمام المطبعين، والشوكة في سجادة الحرير التي يريدون السير عليها، ومصدر قلق وناقوس خطر يمكن أن يوقظ وعي الأمة، ويعيد توجيه بوصلتها باتجاه تحرير المسجد الأقصى المبارك. فلا غرابة من صفقة القرن التي يتقاسم فيها العربي دوره مع الأمريكي والإسرائيلي في الإجهاز على هذه الفريسة سهلة المنال لينعموا بحفل الزفاف الميمون في القصر الأمريكي وهو يعلنها على مسامع العالم بسطوة وهيمنة القطب الواحد وعقلية الكابوي التي اعتادت على صيد الجوائز.