فلسطين أون لاين

​ياسين بن حمودة جزائري مسّه حُب الأندلس فصارت "شغله الشاغل"

...
غزة - آلاء المقيد

"أتذكّر تلك الساعات الثمينة التي كنت أقضيها في قراءة كتب الأندلس الصفراء, لم يكن هناك (إنترنت) ولا (فيس بوك) ولا مكتبة شاملة ولا كتب إلكترونية, كانت ساحة القتال لا تؤمن بالحرب الذكية, كان على كل من شاء أن يخوض بحر المعرفة أن يحمل سلاح الكتاب أو المجلّة وأن يبلّل نفسه في ماء القراءة والمطالعة, ولم يكن يرد حديث الأندلس على ألسنة العامة ولا في الشّاشات، ويندر أن تجده في جريدة أو مجلّة, وكان لزامًا عليك أن تعيش هيامك منفردًا منعزلًا, وكانت تلك متعة الأندلس".

ما سبق هو "مُقتَبس" من إحدى مقالات المدّون الجزائري ياسين بن حمودة, الذي مسّ فؤاده حُب الأندلس, ذات رحِلةٍ عابرة إليها, ومنذ ذلك الحين لم يعد شغوفًا بشيء كشغِفه بتاريخ "الفردوس المفقود", حتى ارتبط اسمه بالأندلس, كأن أحدهما من صُلب الآخر، لأنه كما يبدو سقوط الأندلس من الخريطة لا يعني سقوطها من الذاكرة.

عبر حوارٍ هاتفي معه عادت "فلسطين" به إلى بداية الشغف, وتفاصيله, وإلى ذكريات لا تُنسى, مرورًا بمراحل مفِصلية في حياته, وليس انتهاءً بما هو عليه الآن.

ياسين بن حمودة الذي يُقيم في إسبانيا هو من مواليد الجزائر 1979م, هو جُزءٌ من الهوية العربية الإسلامية ومهتمٌّ بالتدوين عن الأندلس, يُحب السفر ومولع بالقراءة والأدب, حامل شهادتي البكالوريوس والماجستير في الاقتصاد، ويتقن العديد من اللغات.

وما كان يُميز ياسين في صغره المثابرة والإصرار, كان طفلًا متميزًا ينال كل ما يريد بالعمل والمثابرة, يبدأ الحديث عن ظروف نشأته بقوله: "تربيتُ في أسرةٍ متفهمة ومتعلمة كان لها الفضل الكامل في تكوين شخصيتي, فوالدي الأديب لم يحثني يومًا على قراءة كتاب، لكنه وفرّ لي مكتبة عظيمة بالبيت, حرّكت فيّ حُب المطالعة والشغف بقراءة الكتب من سن الخامسة والنصف, أما أمي فكانت تُشجعني دومًا, وتُصورني على أنّي الأفضل".

ويرى بن حمودة أن الكتاب وسيلة مهمة جدًّا للطفل للتعرف إلى العالم المحيط به, من طبيعة، وبلدان, وتاريخ، وغيرها، بمعنى آخر إنهما حرصا على بناء شخصيةٍ سوية للطفل, ويستذكر أول كتاب قرأه: "كان سيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) لابن هشام, وهذا أثر كثيرًا في تفكيري وتكوين شخصيتي, وأتذكر أنّي من هذا الملخص انطلقت إلى قراءة سِير الصحابة, والجغرافية التاريخية".

بداية الهيام

كان ينظر ياسين إلى الأندلس بعين القارئ العادي، الذي لم تطأ قدماه بعد أرضها؛ بصورة نمطية تُمثل له الجمال والمجد والعز.

وبعد أن انتهى من قراءة كتاب "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب" للمقري توّلد الشغف لديه للتعرف من قرب إلى الأندلس وتاريخها، فقرر زيارتها، وكان له ذلك عام 2006م أول مرة, عن تلك الزيارة يُحدثنا: "كنت أرى في شوارعها كُل ما قرأته, تمامًا كشعور الانتقال من دهشة القارئ إلى دهشة المتعايش مع التفاصيل الحقيقية".

تلك الزيارة حرّكت فيه حُب العودة, فعاد إلى الأندلس وشاء القدر أن يتزوج ياسين بإسبانية عام2009 م, ويُنجبا طفلين ميساء وعبد الرحمن, فقرر العيش هناك, ومن هنا بدأت رحلاته وأسفاره للتعرف إلى الأماكن الأندلسية.

"لكن كيف ساقكَ القدر إلى التعمقِ في تاريخ الأندلس؟"، عن هذا السؤال يُجيب: "كنت قبل الذهاب إلى أي مدينة أندلسية أبحث بين كتب التاريخ والمنشورات العلمية، وأقرأ عنها وعن خصائصها, ومتى فُتحت ومن أعلامها, وبعد العودة من الزيارة أسجل تجربتي مصورةً دون نقلها إلى الناس".

وفي عام2012 م شرع فعليًّا في التدوين ونقل تجاربه إلى القراء عبر صفحة الأندلس في (فيس بوك) بإدارة منى حوا, إذ التقى من يُقاسمه الهُيام نفسه, ويُشاركه في التتيم بالأندلس, إذ كانت حوا تُغطي تاريخ الأندلس, أما هو فيدون عن معالم الأندلس كالمدن والقرى بالصورة والكتابة.

وكان ياسين يتجنب أسلوب تنميق وتزويق تاريخ الأندلس لجذب القارئ, بل كانت بصمته التي تميزه الصورة مع سرد معلومات تاريخية مجردة من التحريف بأسلوب أدبي، وهذا يجعل قراءة الموضوع سلسة, وفقًا لقوله.

لم يكتب ضيفنا يومًا: "ما أجمل قرطبة، وما أجمل معالم تلك المدينة!"، بل كان يسرد الحقائق التاريخية حتى السيئة عن تاريخ الأندلس، لأنه من حق القارئ أن يتعرف إلى التاريخ كما وقع.

"ما الذي دفعك بهذه الجرأة إلى الخروج عن النمط العام في الحديث عن الأندلس؟"، يقول: "سألتُ نفسي: من أنا؟، أنا مجرد إنسان عادي, أعيش في قرن، لست مسئولًا عن القرون الأخرى, لا أمثل أحدًا ولست مسئولًا عما فعله الآخرون, فلماذا أُغطي على أخطاءٍ ارتُكبت؟!، فقررتُ أن أكون منصفًا في طرح المعلومة التاريخية وأتناول الأمور الجيدة والسيئة على حد سواء", فباعتقاده أن الأمور الحسنة علينا الاقتداء بها, أما الأمور السلبية فعلينا التعلم منها وتجنبها.

وعلى سبيل المثال من الأمور السيئة التي وَقعت في تفاصيل الفتح يقول: "الاعتقاد العام أن المسلمين كانوا يتعاملون بعدلٍ مع الرعايا الأجانب, وأن فتوحاتهم كانت تتم باحترامهم للقوانين والمواثيق وغير ذلك, لكن في الحقيقة وقعَت الكثير من الفروقات بين أبناء الأمة الإسلامية الأندلسية أساسًا, كأن يكون هناك فرقٌ كبير بين عرب الشام وعرب اليمن, فروقات على مستوى الضرائب, وتعامل الدولة معهم".

كثيرون من متابعي مدونات ياسين بن حمودة عن تاريخ الأندلس كانوا مندفعين، لا يُعجبهم تقديمه للمعلومات التاريخية, لكنه لم يكترث لذلك؛ فهو لا يُبيع المعلومة ولا يُتاجر بصورته, هدفه نقل المعلومة كما هي، فكان المتخصص بالتاريخ هو المتفهم والمتقبل لما يُقدمه, ومن دونهم قدموا له انتقادات لاذعة.

وعن أكثر ما ذُهل به خلال تعمقه بتاريخ الأندلس يقول: "لا أدري كيف كنا نختصر تاريخ الأندلس, فهو واسع جدًّا ومتعشب, ونحن معلوماتنا سطحية عن هذا التاريخ, وكل ما يُنقل عن الأندلس هو صورة نمطية, والصورة الحقيقية مغايرة تمامًا".

وفي تاريخ الأندلس دورس استوقفت ياسين, إذ علمته على المستوى الشخصي ألا يَثق بالمعلومة التاريخية إلا إذا كانت مُعدة بطريقةٍ غير منحازة, أي بطريقة متجردة من الهوى والانتماء.

يقول: "على المستوى العام ما تعلمته من تاريخ الأندلس هو أن الأمة إن لم تكن مجتمعة على هدف واحد وقضية واحدة مع تجاوز كل خلافاتها؛ فإن مصيرها الاندثار".

تنظيم الرحلات

ولأن هناك فرقًا بين المعلومة التاريخية الموجودة بالكتاب, والمعلومة التي تقرؤها من المكان نفسه؛ قرر ياسين تنظيم رحلات إلى إسبانيا والبرتغال, ليمسك بيد المهتمين بتاريخ الأندلس والمتعطشين إلى الثراء الثقافي, ويُسافر بهم ميدانيًّا إلى مدنٍ طالما قرءوا عنها دون أن يروها.

عن سبب تنظيم هذا النشاط السياحي يقول: "الشركات السياحية التي تُقدم مثل هذه الخدمات للمهتمين بتاريخ الأندلس قليلة، وهي أصلًا غير مقيمة في إسبانيا, والساحل العربي خيارته محدودة, لذا شرعت بتنفيذ هذه الفكرة لمن يهمه الأمر".

ومن بين الأشياء الجميلة التي أعجبته خلال تنفيذ هذا النشاط هو أن فئة كبيرة من الناس الذين قرروا زيارة الأندلس كانوا غير مهتمين بتاريخ الأندلس, ومعلوماتهم عنها قليلة, ويظّل المكان جافًّا حتى تُعطيه الروح, وروح المكان تاريخه, فبمجرد أن بدأ ياسين بالحديث عن تاريخ المكان وسرد المعلومة التاريخية تغيرت نظرتهم بالكامل عن الأندلس, ومنهم من أصبح بعد هذه الزيارات مهتمًّا بتاريخ الأندلس، ويُراسل ياسين للاستزادة بالمعلومات ليتعرف أكثر إلى الأندلس.

السفر خطر

ضيفنا المُولع بالسفر والترحال الذي زار تسع دولٍ يرى في السفر خطرًا على روح الإنسان, لأنه يُعطيها الحرية وعدم التقيد بضوابط في العمل والوقت, حتى في الأيدولوجية, إذ يُخرجك من نمط معين إلى أنماط متعددة, ويُصبح في الشخص الواحد عدة أشخاص، وهذا أمر إيجابي وسلبي في الوقت نفسه.

ويزيد قائلًا: "إيجابيٌّ من ناحية التعرف إلى الثقافات وكسر الكثير من الحواجز, وأنك تتقبل أمورًا لم تكن تتقبلها من قبل, وتنفتح على أمور كنت منغلقًا عليها, وفي الوقت نفسه السفر يخلق نوعًا من التحدي عند المرء بحيث يكون منفتحًا على العوالم الأخرى دون ذوبان".

"ما الثقافة التي تمنيتَ أن تستقدمها من الغرب إلى عالمك العربي؟"، يقول: "التعامل مع المرء كونه إنسانًا بعيدًا عن أي صورة نمطية سابقة عنك".

"حسنًا، وماذا تفتقد من ثقافة مجتمعك الجزائري العربي هنا في إسبانيا؟"، يجيب: "أمرين, خِفة الدم وسهولة الوصول إلى الشخص, فالجزائري سهل جدًّا ومِرح, أما الأمر الثاني فهو المساعدة في كل الظروف, أحيانًا في أوروبا، إذا لم يكن هناك فائدة مرجوة لا تلقى مساعدة من أحد, فالمساعدة غالبًا ما تكون بمقابل, بعكس ما هو معروف عن شعب الجزائر الشهم".

ابنته إنجازه العظيم

بدا جليًّا أن ابنته ميساء (3 سنوات) تحظى بمكانة عالية في قلبه, دون أن يُنافسها أحد عليها, فحين سألته عن أعظم إنجازٍ حققه أجاب دون تردد: "ابنتي ميساء, فالإنجاز يُقاس بقيمته وقيمة ابنتي عندي كبيرة, وأود أن أقدمها للبشرية في مشروع قادر على التغيير، ولو جزئيًّا", متابعًا: "لذا أحاول أن أتبع معها الطريقة نفسها التي اتبعها معي والداي من التفهم والمعاونة والدفع، وأُقدم لها هوية ثابتة وشخصية قوية لتُقدم الخير لنفسها وللأمة".

ولمُحبي التاريخ وسبر أغواره يقدم هذه النصيحة: "يتعين أن تفهم أنك غير مسئول عن شيء لم تقم به, والثاني أنك مسئول عما ستقوم به، الأمر الأول سيجعلك تقرأ التاريخ دون تحيز وتعصب, والأمر الثاني سيتيح لك المزيد من المطالعة كي لا تسقط في أخطاء سقط فيها من قبلك".