ظلَّت لهذه الأنشودة مكانة خاصة في قلبي، كانت قد صدرت قبل فترة وجيزة من اعتقالي في تموز 2018، وسمعتها مرات عديدة حينها، حتى حفظتُ معظم مقاطعها، ثم شاءت إرادة الله أن تكون -بعد كتاب الله - سلوتي في زنازين التحقيق، أترنم بها حين أكون وحدي في زنزانة العزل، فتنفتح أمامي دروب من الأمل، وأخال أن هناك شمساً تضيء عالمي هناك، وأرى نفسي أجوب حواري القدس، أو أجلس في أفياء المسجد الأقصى.
(سنصلي في القدس) للمنشد حسين الأكرف، فيها طاقة غامضة من الأمل، والقدرة على بعثه في النفوس المتعبة، أو هكذا بقيت بالنسبة لي لارتباطها بذكريات فريدة وعزيزة، فيها تعب وإصرار وانتصار، وفيها صبر وحنين واشتياق.
"سنصلي" فعل متعلق بإرادة المستقبل، يحسب من يسمعه أنه يدور حول أمنية بعيدة أو حلم صعب المنال، ولكن الحلم مقدمة لكل أمر واقع، وكل هدف كبير يبدأ بأمنية تتبرعم في أفئدة موفورة الإرادة، تترفع عن الانشغال بعدّ خسائرها وهي سائرة في طريقها نحو غايتها.
غير أن المقدسيين اليوم تقدموا خطوةً مهمةً على الطريق بمبادرة حملة (الفجر العظيم) في المسجد الأقصى، ومثلهم صنع أهالي مدينة الخليل بارتياد المسجد الإبراهيمي بالآلاف في صلاة الفجر من كل جمعة. هذه المبادرات التي تبدو بسيطة وغير محتاجة جهداً كبيراً تقول شيئاً مهماً وهو أنه لا ينبغي لنا انتظار تحرير المسجدين حتى نصلي فيهما، ونطلق نداءات التكبير منهما، وإن من لا يقوى على حمل السلاح لأداء واجب الجهاد في سبيل تحرير مقدساته يسعه أن يصونها بطرق شتى، وأن يحول دون عدوان الاحتلال عليها، وأن يقف بجسده الأعزل في وجه مشاريع تهويدها.
لا شيء أخطر على المقدسات من أن ينعزل عنها أهل البلاد الموجودون فيها والقريبون منها، فهجرها بدعوى انتظار تحريرها يغري المحتل بالتجرؤ على انتهاكها وتغيير معالمها، وهو الذي لا يضيع فرصة تتيح له إثبات صلة له بهذه الأرض، حتى ولو كانت وهمية أو زائفة ومدّعاة.
أهل فلسطين هم الأولى بحمل مشعل الدفاع عن مقدساتهم وفي مقدمتها المسجد الأقصى، وهذا أجدى وأنفع من الاكتفاء بهجاء تقصير المسلمين بحق الأقصى، ومطالبتهم بما لا يقدرون عليه، فيما بينهم وبين الأقصى حدود وطغاة وجيوش وجراح.
مبادرة (الفجر العظيم) التي شملت القدس والخليل ثم امتدت إلى مساجد غزة تؤكّد أن رسالة الحشد مهمة، وأن العدد لن يكون كغثاء السيل إن استثمر بشكل سليم ومجدٍ ومفيد، فدرس هبة باب الأسباط 2017 لا يزال حاضرا، كما أن المبادرة تنير وعي الفلسطيني بما يستطيع فعله لأجل الدفاع عن مقدساته، حتى لو كان مجرداً من سلاحه، وأن دوره لا يجوز أن ينحصر في الاستجداء والانتظار، وحين يراه عدوّه بهذه الهمة في ارتياده مساجده المهددة بالتهويد سيدرك أن المقدسات ما تزال خطاً أحمر، وأن العدوان عليها سيفجر براكين غضب متفاعل تتجاوز كل عمليات الترويض والتدجين.
إن للمساجد دوراً عظيماً حين يُحسن استثماره، فهي موثِّقة عرى العقيدة في النفوس، وشاحنة القلوب بالزاد الحاثّ على العمل والحركة، والموحدة بين هموم المسلمين، وصائغة معاني الاجتماع في وعيهم، ولهذا كان التآمر على دورها كبيراً في كل مكان حلّ فيه طغيان، أو رام فيه الاستقرار المحتلون والمستبدّون.
"سنصلي في القدس"؛ ثمة من يراه فعلاً بعيد الحصول، وثمة من يراه قريبا، وثمة من جعله واقعا، مستبشرا بحدوثه في يوم آتٍ بلا ريب، والقدس حرة، وأقصاها عامر بأهل فلسطين والأمة.