داخل محل صغير في زقاق البلدة القديمة بمدينة نابلس (شمال القدس المحتلة)، قضى الفلسطيني بهجت زبلح أكثر من نصف عمره وهو يمارس مهنة كي الثياب، والتي تعدّ واحدة من المهن القديمة التراثية والأساسية في فلسطين.
"زبلح" البالغ من العمر 77 عاماً، عايش هذه المهنة منذ سن الرابعة عشرة، قاطعاً فيها عقوداً طويلة، عايش خلالها مراحل وقصص كثيرة.
ويقول السبعيني الفلسطيني "كنت أغادر مدرستي وأذهب مسرعاً إلى معلمي الثاني في مهنة الكي؛ ألازمه وأتعلم منه أصولها وأراقبه يتفنّن بعناية في تجهيز الملابس النظيفة والأنيقة لزبائنه، وكان ذلك منذ عام 1954م".
ويضيف "في العام 1970 انطلقت لخوض غمار العمل الحر؛ فافتتحت هذا المحل وبدأت باستقبال الزبائن وطلباتهم فيه، كنت أغسل الملابس وأقوم بكيّها وإخراجها أنيقة جميلة".
حرص "زبلح" على تطوير أدوات عمله بما يضمن استمرار ممارسته للمهنة التي أَحب منذ ما يزيد على ستة عقود، كان جُلّ ما يتطلبه كي الملابس آنذاك طاولة ومكواة تُسخّن على بابور الكاز، استبدلت لاحقاً بمكواة البخار.
"من شدّة تعلقي بهذه المهنة علّمت أسرارها لثلاثة من أبنائي الذين أستعين بهم عند الحاجة لمساعدتي، رغم أنهم يعملون في مجالات أخرى"، يقول زبلح.
وحول إقبال الزبائن على محله، يقول "المكوجي" النابلسي "على الرغم من انتشار أماكن أكثر تطوراً لتنظيف الملابس وكيّها باستخدام تقنيات حديثة، إلا أن الإقبال على محلي الصغير لا يزال ملحوظاً؛ فالناس بوجهة لا زالت تثق بي وبأمثالي من العاملين في هذا المجال، ناهيك عن التكلفة المتدنية التي نتلقاها مقارنة بغيرنا".
أطلق الحاج الفلسطيني تنهيدة أنهى بها حالة من الصمت التي كانت تزور المكان بين الحين والآخر، قائلاً "أرجعتني سنوات طويلة إلى الوراء. الناس قديماً كان حالها مختلف عمّا نشهده اليوم؛ أخلاق وأناقة وتعامل حسن (...)، أبكي دماً كلما استذكرت تلك الأيام"، على حد تعبيره.
وذهب يسترجع ذكريات الماضي متمعناً في مجموعة صور قديمة له ولجيرانه ولزبائنه في المحل، معلّقاً عليها بالقول "نمط الحياة تغيّر، وكذلك قلوب الناس، مع تطور الحياة وتقدمها".
ويختم الحاج السبعيني، حديثه بالقول "عشت نحو ثمانية عقود، وعايشت الاحتلال منذ بدايته، فكانت النكبة والهجرة، ووصلنا إلى النكسة والرحيل من جديد، مروراً بالانتفاضات والحروب، وبقيت واقفاً في محلي أنتزع لقمة عيشي، فالحياة لا تعرف الضعيف، وعلى كل إنسان أن يمتلك الإرادة كي يعيش بكرامة ويتغلب على معوقات وظروف ربما تنتصر عليه إن انحنى لها قليلاً"، كما قال.
وبرغم كبر سنّه؛ إلا أن أقدم "مكوجي" في مدينة نابلس يُصّر على مواصلة عمله وتلبية طلبات زبائنه بكي ملابسهم في محله البسيط داخل "سوق البصل" بالبلدة القديمة.