لا أعتقد أن المجتمع الدولي ومؤسساته الأممية التي تنتمي إليها أغلب دول العالم، وتعترف بها وتلتزم بمواثيقها وتخضع لأحكامها، وتشتكي إليها وتحتكم إلى قوانينها، ومنها لجنة الأمم المتحدة لمناهضة التمييز العنصري في جنيف، بحاجةٍ إلى أدلةٍ وقرائن وشواهد واعترافات، أو ينقصها المزيد من التحقيقات والاستقصاءات وجلسات الاستماع وكلمات الدفاع، ليقر في أذهان قضاتها ويثبت لدى هيئات محاكمها، ويدرك مندوبو دول العالم المنتسبون إليها، أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي تمارس سياسة التمييز العنصري البغيض بحق سكان فلسطين الأصليين وأهلها الشرعيين، وأنها تعاملهم معاملة الغازين البيض للقارة الأمريكية لسكانها الأصليين من الهنود الحمر، الذين قتلوهم وأبادوهم، ومارسوا بحقهم سياسة التصفية والتطهر العرقي حتى لم يبق منهم أحد، مما سهل عليهم استيطان الأرض ونهب خيراتها وادعاء شرعية امتلاكها.
كان ينبغي على اللجنة الدولية لمناهضة التمييز العنصري، أن تباشر منذ سنواتٍ طويلةٍ، بنفسها وبدافعٍ من ضميرها الإنساني، بفتح ملفات الاحتلال الإسرائيلي وفضح سياساته العنصرية في الأرض المحتلة، وكشف مخالفاته الدولية وجرائمه ضد الإنسانية وممارساته المنافية للقوانين والأعراف الدولية، وألا تنتظر حتى تتقدم إليها السلطة الفلسطينية بعد قبول انضمامها إليها واعترافها بها، بشكوى ضد ممارساته العنصرية، وجرائمه المهولة بحق الشعب العربي الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس الشرقية وفي كل الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1948، حيث يعاني السكان العرب فيها معاناةً قاسيةً وشديدةً، ويحرمون من أبسط حقوقهم الإنسانية والمدنية، بينما يتمتع السكان اليهود الذين يجاورونهم في السكن والإقامة بكل الحقوق والامتيازات.
تمنح القوانين العنصرية الإسرائيلية المستوطن اليهودي الحق في التوسع والبناء، وفي الامتلاك والشراء، في استجلاب المياه وحفر الآبار، وتضمن بقوانينه ممتلكاته وحقوقه، وتصون خصوصياته وحاجاته، وتمنحه الحصانة إذا اعتدى على المواطنين الفلسطينيين وتقتنع بروايتهم إذا حققت معهم، وتخفف الأحكام عليهم إذا أدانتهم وقاضتهم، بينما تمنع الفلسطينيين من التملك والشراء، وترفض السماح لهم بالتوسع والبناء، بل تقوم بهدم مساكنهم وتدمير منشآتهم ومصادرة أرضهم وردم آبارهم وإغلاق شوارعهم، وتتهمهم دائماً وتكذب روايتهم وترفض شهادتهم، وتدينهم بأبسط الاتهامات وأقل الشبهات، وتحاكمهم بشهادة غيرهم وقرينة سواهم، وتقسو عليهم بأحكامها وتتشدد عليهم بقضائها، ولا تستجيب لشكواهم أو توافق على اعتراضهم، بل ترفض استئنافهم وتعارض إعادة محاكمتهم، ولا تخفف عنهم أو تخفض سنوات سجنهم، وترفض الإفراج المبكر عنهم كما تفعل مع المحكومين اليهود المدانين بجرائم كبيرة وانتهاكاتٍ خطيرةٍ.
يبدو أن اللجنة الدولية لمناهضة التمييز العنصري قد قبلت رسمياً الشكوى المقدمة إليها من السلطة الفلسطينية ضد (إسرائيل)، على أساس أنها تمارس سياسة الفصل العنصري في الضفة الغربية والقدس الشرقية، علماً أن الكيان الصهيوني الذي يقترف كل هذه الموبقات والجرائم ينتسب إلى هذه اللجنة ويعترف بها منذ أربعين عاماً، ورغم ذلك فإنه ينتهك قوانينها ولا يلتزم بمواثيقها، ويرتكب ذات الجرائم التي تحاربها وتعمل على الحد منها وإدانتها، لكنه يحظى برعاية الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الغربية، التي تعرف جرائمه وتراقب سياسته، ولكنها تغض الطرف عنها، وتمنع عرضها ومناقشتها، وتمارس الضغط وتعاقب الدول التي تقترح إدراجها على جدول أعمال اللجنة لمناقشتها والحكم عليها.
تهدد حكومة الكيان الصهيوني اللجنة الدولية لمناهضة التمييز العنصري بالانسحاب منها وسحب الاعتراف بها، وترفع في وجهها ورقة انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية منها، وامتناعها عن تقديم الدعم المالي لها، ووقف مساهماتها السنوية التي تعتبر الأكبر بالنسبة إلى دول العالم الأخرى، بل وتحتج لدى هيئة رئاسة اللجنة بأن العديد من الدول العربية تعارض مناقشة الشكوى، وترفض عرضها على الجمعية العامة للجنة، وتعزز دفوعاتها القانونية بأن السلطة الفلسطينية ليس لها حق تقديم شكوى إليها، إذ لا يحق لها أصلاً الانضمام إليها والتمتع بذات الامتيازات التي تتمتع بها الدول الأعضاء المستقلة المنتسبة إليها.
لا نفاجأ إذا سمعنا بعد أيامٍ قليلة رفض هيئة اللجنة قبول الشكوى وعرضها، بحجة عدم اختصاصها في مناقشتها والنظر فيها، رغم أن المستشار القانوني للأمم المتحدة أعلن قانونية الشكوى، وأنها تستوفي كل الشروط المطلوبة شكلاً ومضموناً، فالكيان الصهيوني ما زال عبر حلفائه يتمتع بدعمٍ دولي مهولٍ، ويحظى برعاية سياسية تحول دون إدانته ومحاكمته، الأمر الذي يفرض على الدول العربية ومعها الدول الإسلامية، وهم دول كثيرة وبعضها قوية ومؤثرة، وجوب ممارسة الضغط والعمل الجاد للقبول بالشكوى ومناقشتها، لفضح الكيان الصهيوني وتعريته، وكشف كذبه وادعائه الديمقراطية الزائفة، واحترامه لحقوق الإنسان بعنصريةٍ فاضحةٍ، وإلا فإنها ستكون شريكاً مع العدو الصهيوني في سياساته العنصرية ضد الشعب الفلسطيني.
أما السلطة فإن عليها أن تصر على موقفها، وألا تتراجع عن شكواها، وألا تخضع لابتزازات العدو وشروطه، وألا تقبل بعروضه وتغر بوعوده، وألا ترضى بجلسات المصالحة ولقاءات المصارحة، وأن تمضي في إجراءات المناقشة والمحاسبة، رغم نواياه المعروفة بفرض المزيد من الشروط وممارسة الكثير من الضغوط، لكنها معركة نضالية ضده، يجب أن نخوضها حتى النهاية بكل الأسلحة الممكنة والوسائل المتاحة، فلا نحقرن بعضها ولا نستخفن بأي آلية منها، سواء كانت خشنة عسكرية، أو ناعمة قانونية، أو دعائية شعبية، أو تضامنية دولية، فكل الوسائل مطلوبة وكل آليات النضال محمودة، شرط ألا يكون فيها تنازلٌ أو اعتراف، بل صمودٌ وثباتٌ وعنادٌ وكبرياء.