هذا
الدويّ الضخم الذي يَرج أركان المكان بخبر استشهاد باسل الأعرج، فينتفض كالشُعلة
من الموطن الدافئ بيت لحم إلى القدس التي أحببت وتعلمت، إلى مدن المثلث التي حفظت
تاريخها عن ظهرِ قلب، إلى رام الله التي تخضبت بدمائك، إلى غزة التي عشقتك؛ يضج
الصوت يخترق القلوب بإعلان استشهادك.
لن أقول رحيلًا لأن الباسل الذي ترك بصمة في أدمغة الشباب قبل أن يحفرها في تراب الوطن لا يرحل، هذا الشهيد لم يكن رجلًا فردًا واحدًا يمر مرورًا عابرًا بل كان أمةً في رجل، أمة من العلم والثقافة والاطلاع والثورة والحُب، حُب الموت ليحيا الوطن وحُب الحياة لتحرير الوطن.
تلك الفلسفة العميقة التي كَونتها وآمنت بها وعرفت حقًّا شكل الطريقِ إليها، عندما تتجسد واقِعًا من كلماتك إلى شكل حياتك قائلًا: "عندما نتقن أن الخلاص الفردي شيء كاذب؛ سيضطر كل واحد إلى البحث عن الخلاص الجماعي ويتحول إلى ثائر".
لكنه لم يكن ثائر الحرف أو الشِعار فحسب بل هو الثائر المِقدام، المثقف الحق، الفلسطيني الهمام، إنه باسل المقالات الملتهبة، والتُظاهرات الشعبية المتّقدة، والحجر الفلسطيني الذي يعادل ألف بندقية، إنه الصيدلاني النبيل الذي يداوي جِراح الناس دون كللٍ أو ملل، فكان المُقاوم الإنسان والإنسان المُقاوم.
باسل الذي تفحص تاريخ المقاومة الشعبية في الجليل بثلاثينيات القرن الماضي ففهِم ووعي وأنتج جيلًا يدرك أن حرب العصابات الأنجع في مقاومةِ هذا المُحتل الهش، راسمًا الطريق جليًّا بتعلمه جغرافيا فلسطين شبرًا شبرًا حتى أصبح مُطاردًا بين جبالها وسهولها فكان له من اسمه ألف ألف نصيب.
باسل الأعرج الذي يعرِف أن حياة الفلسطيني تعني أن الإقبال على الشهادة يَقتل كفة الإقبال على الحياة بتوازٍ تام، عندما تعتقله أجهزة أمن السلطة يدفع من لحمه ثمنًا للحرية، ثم يختار حياة المطاردين على الأسر لدى محتلٍّ غاصب، لتكون له أرض فلسطين لحافًا وسماؤها غطاء، مكتسيًا دفء قلبه وممتطيًا حُب وطنه في زمهرير الشتاء القارس، وليالي الغياب الحالكة بين الجبال المُثلجة والمنحدرات الملتوية.
باسل الذي دوّخ الاحتلال شهورًا طويلة من مطلعٍ أيلول (سبتمبر) 2016م حتى آذار (مارس) 2017م، ولم ينل منه قدر شعرة أو ريح أثر، هذا المحتل الفاشل صاحب أقوى جيوش العالم هزمه باسل دون أن يُهزم، لأن المُقبل على الموتِ لا يموت بل يُخلّد.
ونحن عندما نكتب بالعادة وتكون اجتاحت فِكرنا قضية ما فإننا لا نرى بياض الورق، لأن ضجيج العبارات يكون مُحفِّزًا قويًّا على الكتابة، وسرعان ما يزدحم البياض بحبِر الحروف، أما اليوم وأنا أكتب عن باسل الأعرج أجدني مع المشاعر المتلاطمة وغصة القلب الحارقة وصهيل الكلمات المتعالي أرى كل هذا الحِبر بياضًا ناصعًا راصفًا، لا كلمات تختصر الشهيد.
عندما نكتب عن الشهداء لا يوجد كلمة "باختصار"، لأن هذا التاريخ الضخم من النضال المكثف بالأحداث المتسارعة المتشابكة لا يُختصر بكلمة بل بقطرة دم.
هذا التاريخ العصي على النسيان لا يُعد بالأيام بل بحجم الإنجازات وقوة النتائج، وباسل الأنموذج النضاليّ المثقف الذي أبى أن يكون رقمًا في دفاتر إحصائيات الشهداء اليوم نذكره كما أراد بطلًا لا رقمًا، اسمًا يُغير منحى النضال، نذكره ونتعلم ونعي ونكتب، فإذا ما جفت المحابر نضع بعد اسمه عشرات النقاط، لأن نقطة واحدة حتمًا ستكون جائرة.
عرفناه بحرفه اللاذع ومواقفه الصارمة، عرفناه كما عرِف فلسطين يتصدر التظاهرات والمسيرات، يُحاضر في الشباب، يُلفلف المحتل وراءه من مدينة إلى مدينة، يجابه الغاصب إلى آخر رصاصة وآخر نفس، تاركًا وصيةً تُخفي شوقًا مخبوءًا وكوفية مخضبة ودماءً معطرة أقوى شاهد على الموتِ بشموخ.
أستجدي كلمات شهيدٍ آخر لا أصفه بشيء غير كلمة "شهيد"، هو "عبد الرحمن السكافي" الذي أحب الحياة ما استطاع إليها سبيلًا وأحب الشهادة ما استطاعت بندقيته إليها مسيرًا، كان يقول: "الوطن جميل يستحق التضحية، لكنه لا يعدو ترابًا من دونكم"، هذا التراب الذي يلتهب تحت أقدامنا اليوم، وهذا المدى الذي يَضيق كخرم إبرة ليسا إلا حرية لم تكتمل.
باسل الذي رفعته السماء، ولم تضمه أرض، ولم يعرفه لحد اليوم ترثيه زهور براري "ولجة" كما أنثر كلماتي على رفاته من غزة، أنثرها زهرًا ومِلحًا كالذي تُلقيه السيدات يوم النصر فرحًا وفخرًا، فكل زفة شهيد هي إعلان نصر مؤجل.