لا يعدّ نفسه كاتبًا من كُتاب هذا الزمان، فالكُتاب اليوم يكتبون بطرق مختلفة عنه تمامًا، فهم يستخدمون الأقلام، وهو يتّخذ من أنفه وسيلة للكتابة، وكتابه "نظرات ثاقبة" يُعدّ الأول في تاريخ البشرية الذي يكتب بهذه الطريقة.. الإرادة والتحدي كانا طريقه في الحياة، وسكنه الإصرار ليثبت للعالم بمؤلفه أن الإعاقة هي تلك التي تصيب الأفكار لا الأجساد، كما أنه أراد أن يكون حاضرًا في هذا المجتمع، وأن يجبر العالم على تقبله كما هو، وأن يجعل إعاقته مصدرًا لطاقته، وحافزا يشجعه على أن يثبت للمجتمع أنه كغيره من البشر، دون أن يسمح لها بأن تكون حاجزًا أمام تحقيق أهدافه، كما أنه آمن بإبداعه ولطالما كان فخورا بنفسه، فلم يعتبر، ولا يرى إعاقته سوى أنها ميزة من الله له عن الآخرين، وأنها نعمة لا يعرف الناس فضلها عليه، ولم تكن عبئًا عليه يوما..
طفولة طبيعية
المعتصم بالله أبو محفوظ (21 عامًا)، كاتبٌ وناشط على مواقع التواصل الاجتماعي، مؤلف كتاب "نظرات ثاقبة"، طالب في جامعة الزرقاء في المملكة الأردنية الهاشمية، يدرس هندسة البرمجيات، وعضو في رابطة اتحاد الكتاب الأردنيين، وأول "يوتيوبر" في العالم يعاني من صعوبات النطق.. هكذا عرّف نفسه في حوار أجرته معه "فلسطين"..
وللتعريف السابق بقيّة، قال عن نفسه أيضًا: "أنا إنسان رزقه الله بالشلل الدماغي منذ الولادة، ولكن لدي هدف، هو ألا تكون إعاقتي حاجزًا عن الإنجاز، بل تكون هي الحافز".
"خرج من الموت بأعجوبة، ولو عاش سيواجه صعوبات في حياته".. هكذا تلقى أبواه الصدمة على لسان الأطباء، إذ تعرض لنقص في الأكسجين أثناء الولادة، وأكّد لهم الأطباء بعد ستة أشهر ما كانت الشكوك تدور حوله بأنه يعاني من شلل دماغي، لتبدأ رحلة البحث عن علاج لهذا المرض الذي أصاب معظم أعضاء جسده، وشمل أطرافه الأربعة والنطق.
وقال أبو محفوظ: "بدأ الشلل الدماغي معي من أول يوم في حياتي، ولكن ما دام العقل موجودا فأنا بخير، ولا علاج سوى العلاج الطبيعي".
وأضاف أنه عاش طفولته كأي طفل، ففي عمر أربعة أعوام بحث والداه كثيرًا عن روضة أطفال تقبل بحالته، وبصعوبة تمكنا من إقناع إدارة إحدى الرياض، ولكن لم يدم الأمر طويلًا، فبعد عام واحد، قالت المديرة لوالدته: "من الصعب أن يكمل ابنك في هذه الروضة، لأن أهالي الطلبة لا يريدون طفلا مثله في صف أبنائهم"، لتبدأ معاناة أهله من جديد في البحث.
وتابع حديثه: "طبعًا لم أجد مدرسة في الزرقاء، وكان الحل الوحيد لأكمل حياتي التعليمية أن ألتحق بمدرسة في عمان خاصة بالمصابين بشلل دماغي، وكان والدي يوصلني إليها صباحًا ويأخذني إلى البيت في نهاية الدوام، وبقينا على هذا الحال لمدة 11 عامًا، وفي هذه المدرسة قضيت أحلى أيام حياتي".
وفي عامه الثالث عشر، شعر أنه غير مقبول في المجتمع، فجعل من أهدافه أن يتقبّله الناس، وساعده على ذلك تعامل والديه معه كأنه مُعافى تماما، ومنحاه شعورا بأنه مختلف عن الآخرين، ووالده صاحب إرادة قوية كما يصفه، وهذه العوامل كانت سبب نجاحه.
حكاية الأنف
وبعد وصوله إلى الصف العاشر، تحتّم عليه الخروج من المدرسة، وحان الوقت لأن يواجه المجتمع وجهًا لوجه، وبدأ يشقّ طريقه في كتابة المقالات ونشرها على مواقع التواصل الاجتماعي، والسبب وفقا لقوله: "لأجبر هذا الوحش (قاصدًا المجتمع) على أن يتقبلني، فالإعاقة ليست بالجسد وإنما بالفكر والأخلاق".
وهنا، بدأ قصته مع أنفه، بعدما اشترى له والده جهاز حاسوب لوحي "تابلت"، وسرد حكايته: "شعرت أنها قصة غريبة، ولكن أردت استخدم التابلت بيدي، ولم يكن هذا ممكنا، وجربت أن أكتب بقدمي، فباءت محاولتي بالفشل، ومن لهفتي لاستخدامه جرّبت أن أكتب بأنفي، فنجحت، وفي البداية كنت أخجل من أن يراني أحد، ولكن فيما بعد لم يعدّ يهمني ذلك، فالمهم أن أصل لما أريد".
كان لزاما عليه أن يكمل دراسته ويحقق حلمه في أن يكون مهندس برمجيات، وعادت إلى الواجهة مشكلة البحث عن مدرسة لتقبله بوضعه الصحي الصعب، فهو لا يستطيع المشي ولا الكتابة بالقلم، ولا يتكلم.
وأوضح: "بعد عناء وجدت مدرسة خاصة متواضعة في إمكانياتها، ووافقت على التحاقي بها، ولكن بشرط أن أدفع ضعفي رسومها، وكنت مُجبرا على الموافقة، ولاحظت نظرات تعجب واستغراب من حولي، وكانت تتسلل إلى مسامعي كلمات المعلمات لأمي (ليش جاي هان، حطيه بمركز خاص أحسنله)، ولكن إرادتي كانت أقوى من رصاصات كلماتهم".
واستطاع أبو محفوظ أن يكسب حبّ زملائه في الفصل، فاكتسب الأصدقاء، وتمكن من التأقلم مع الوضع المدرسي الجديد في أول أسبوع من التحاقه بالمدرسة، وحصل على أعلى الدرجات، فنال احترام الجميع.
وبيّن: "أما الثانوية العامة فكانت التحدي الأكبر بالنسبة لي، وانتقلت لمدارس جامعة الزرقاء، وكان التحدي هو أن أكون أو لا أكون، وكنت متأهبًا له بشكل كبير، واعترضتني صعوبة القوانين، ولكن ثقتي بالله كانت أكبر من أي عائق، وعند اقتراب موعد الامتحانات واجهتني مشاكل مع وزارة التربية والتعليم بخصوص طريقة تقديمي للاختبارات".
ما كان من أبو محفوظ إلا أن يستعين بمواقع التواصل الاجتماعي، فأنشأ صفحة أسماها "المعتصم بالله إرادة تتحدى الصعاب"، للحصول على دعم لقضيته، وليجد استجابة لنداءاته، وللسماح له بتقديم الاختبارات من خلال "التابلت"، حتى حصل على ما أراد.
كان الوقت يداهمه قبل أن ينهي الإجابة على جميع الأسئلة، ولكن بين أسماء الناجحين، لمع اسمه بمعدل 70%، قبل بالنتيجة التي لم تكن مُرضية بالنسبة له، وكان الناجح الوحيد في صفه، ونظر إلى نجاحه على أنه "نقطة ولادة معتصم جديد"، ثم قدّمت له جامعة الزرقاء منحة دراسية ليلتحق بالتخصص الذي حلم به وهو هندسة البرمجيات، فكان اسمه على لوحة الشرف.
وأوضح أبو محفوظ أن صفحته تحولت إلى صفحة عامة، يثريها بمقالاته الخاصة التي لاقت إعجاب المستخدمين، ليخطر في باله فكرة تأليف كتاب "نظرات ثاقبة"، وخلال عام ونصف أتمّ الكتاب، وسرد فيه قصة حياته، وأرفقها بمقالات متنوعة، لافتا إلى أن سبب اهتمامه بالكتابة هو شعوره أنها رسالته التي يستطيع من خلالها الوصول إلى كل ما يريد، والتواصل مع من حوله.
وبين أنه سعى من خلال كتابه إلى تحقيق أهداف، وإيصال رسائل للمجتمع في كيفية التعامل مع ذوي الإعاقة، وتعامل الأهل مع أبنائهم، ونشر الآمال والطموحات بين الناس من خلال قصته، وأن تكون تجربته رسالة للشباب، مشيرًا إلى أنه أول كتاب يُكتب بالأنف، متمنيًا أن يدخل به موسوعة غينس.
شعر أبو محفوظ بمسئوليته تجاه ذوي الاحتياجات الخاصة، فما كان منه إلا أن أطلق مبادرة "نحن طاقة لا إعاقة" لدعم ذوي الاحتياجات الخاصة ماديًا ومعنويًا، ولتوعية المجتمع بكيفية التعامل معهم، ودمجهم فيه، وتوفير بيئة مناسبة للعمل وتحويل أفراد هذه الفئة من مستهلكين إلى منتجين.
وبالنسبة لضيفنا، إعاقته جعلته يفعل المستحيل، ومنحته الفرصة ليكون ذا مكانة بين الناس، وقدوة لكثير من الشباب، "ولكن الإعاقة وحدها لا تكفي للإبداع، يجب أن تؤمن بأنها خير ونعمة، وتتحدى الصعاب، فنحن من قالوا عنا مقعدين وعاجزين، ولكننا استطعنا أن نفعل ما لم يستطيعوا فعله"، وفق قوله.
طموح أبو محفوظ هو أن يصبح روائيًا عالميًا، وأن يلتحق ببرامج للدراسات العليا، وأن يكون رمزًا عالميًا من رموز الإرادة، وقد تم ترشيحه مؤخرا في مسابقة صانع الأمل لأفضل شخصية مبادرة في الوطن العربي.