في داخلها يرقد الأسير المريض وحيدًا لا يسمع صوت ألمه الذي ينخر جسده أحد غيره، لا علاجات هناك ولا فحوصات حقيقية كل ما يوجد بداخلها شكلي، حتى أولئك الذين يرتدون سترة بيضاء ويسمون "أطباء" هم في الحقيقة غير مؤهلين لتقديم خدمات علاجية ولا يحملون شهادة طبية.
في هذا المكان الصغير الذي يسمى عنوة "عيادة" يُستقبل الأسرى المرضى والمصابون، لم يدخلها أسير إلا ازدادت حالته الصحية سوءا، وكأن عيادة سجن الرملة مقبرة حقيقية للأحياء، كان آخر الشهداء فيها الأسير المريض سامي أبو دياك، الذي حرر الموت وحده روحه فيما أكمل جسده المحكومية!.
وعيادة الرملة للأسرى تتواجد وسط سجن الرملة الكبير، وهي أربع غرف لا تزيد مساحة كل غرفة عن أربعة أمتار مربعة، كل واحدة منها تضم أربعة إلى خمسة أسرى مرضى أو مصابين، يفصل بينها ممر ضيق مليء بالأبواب الحديدية، ولا يحظى الأسير في سرير مرضه بحرية الحركة إذ يبقى مكبلًا على مدار الوقت.
وتضم عيادة السجن (19) أسيرًا بشكل دائم، وما إن يفرغ سرير حتى يشغله أسير آخر، مما يدلل على واقع صعب للأسرى المرضى.
ويبلغ عدد الأسرى المرضى في سجون الاحتلال (1200) أسير مريض بينهم (140) يعانون من أمراضٍ تصنف في درجة الصعوبة والخطورة، منهم (21) أسيرًا يعانون من مرض السرطان، و(34) يعانون من إعاقة حركية ونفسية، وكثير منهم مصابون بأمراض القلب والفشل الكلوي والربو وأمراض أخرى.
على أسرّة العيادة ينهش مرض السرطان جسد الأسير المريض معتصم رداد، الذي يتناول (57) حبة دواء يوميَّا وجرعة علاجية من الكيماوي كل شهرين، فيما يعاني من تآكل أصابع قدميه.
في حين يرقد على سرير آخر الأسير منصور موقدة، مقعدًا لا يقوى على الحركة من جراء إصابة لا تزال آلامها ترافقها منذ (17 عاما) حين اعتقل، حتى بات لا يقوى على قضاء حاجته معتمدًا على الأكياس الطبية المساعدة لإخراجها.
أما الأسير خالد الشويش فحاله ليس أفضل، فالآخر مقعد ويعاني من مرض في الأعصاب، فالرصاصات التي أصابته لا تزال مستقرة بجسده، كما يعاني من تعطل في عمل جهازه الهضمي.
ويشاطرهم الحال المأساوي ذاته، الأسير الشاب أيمن الكردي الذي اعتقله قبل عامين بزعم تنفيذ عملية طعن، حيث أصابه جنود جيش الاحتلال بـ(13) رصاصة أفقدته الحركة فأصبح مقعدًا يعجز عن الحركة تمامًا.
معايشة لمرضى الرملة
أما تفاصيل العيش فيما تسميه سلطات الاحتلال زورًا بمستشفى سجن الرملة، فيرويها الأسير المحرر محمد القيق، حينما عايش التجربة بعدما أوقف إضرابه لينقل إلى عيادة "الرملة"، هناك يقابل شابا في زاوية غرفة العيادة نحيل الجسد لا يتجاوز وزنه (42) كغم.. كان ذاك الأسير الشهيد سامي أبو دياك أخذ بعرض صوره عليّ قبل إصابته بالسرطان داخل الأسر.
ولا ينسى القيق ذلك اليوم، قائلًا: "لقد أراني أبو دياك صوره قبل إصابته بالسرطان، كان مفتول العضلات مختلفًا تمامًا عما كان عليه في السجن حيث لا يستطيع المشي أو الأكل بمفرده، يحمل كيس بوله معه (...)أصبت بالصدمة بعدما أخبرني أنه نقل لعيادة سجن الرملة وهو ينزف وأن حالته تدهورت فجأة داخل السجن ولم يكن مصابا من قبل".
والقيق عاش في عيادة سجن الرملة خمسة أشهر، عايش الأسرى المرضى وشاهد الإهمال الطبي أمام ناظريه بل عانى منه كذلك.
وعبر سماعة "الهاتف" يرحل القيق بصوته إلى تلك الأيام المحملة بالألم، مضيفًا: "في داخل عيادة سجن الرملة، لا يوجد وسائل تواصل مع الأهل، فقط يستطيع الأسرى سماع عائلاتهم عبر الإذاعات المحلية التي يصل ترددها لشمال فلسطين المحتلة، ويضطر نادي الأسير لإرسال أسرى غير مرضى من السجون الأخرى للقيام بتقديم المساعدة والمكوث بجانب الأسرى المرضى، وتقديم الدواء والأكل لهم، ومساعدة بعضهم على الاستحمام أو المشي ممن حالتهم صعبة".
كما لا يغفل القيق للحظة تلك الأيام التي قضاها برفقة الأسير الشهيد بسام السايح، قائلًا: "رغم مرضه إلا أن الشهيد السايح كان يرسم الابتسامة على كل أسير يأتي لعيادة سجن الرملة، يقدم علاجا معنويا لهم ويحثهم على الصبر والثبات، كنت أشاهده يتقيأ ويغمى عليه بشكل مستمر دون أن يقدم له أي علاج حتى استشهد وهم ينظرون إليه ويتعمدون عدم علاجه".
"عشت خمسة أشهر في عيادة سجن الرملة، رأيت أسوأ ما قد يعانيه الأسرى في أكثر أيامه حاجة للرعاية الطبية والاجتماعية، شهدت على لحظات صعبة لأسرى مبتوري الأطراف، وآخرين كمعتصم رداد فقط يرقد على سرير مرضه ينتظر إعلان استشهاده داخل السجن".
صراع وجداني
في حين تعيش نهلة الشيخ، وأبناؤها معاناة زوجها الأسير منصور موقدة وجدانيّا، تخشى أن تستيقظ يوما على خبر إعلان استشهاده، إذ تمر الأيام تلو الأخرى وحالة زوجها تتفاقم دون أية تدخل طبي حقيقي من قبل سلطات الاحتلال، وكأنه يعدم بشكل بطيء.
وتضيف الشيخ لصحيفة "فلسطين": "اعتقل زوجي عام 2002 وهي ليست المرة الأولى، فسبق أن اعتقل مرات عدة، تضاعف مرضه بعيادة الرملة نتيجة الإهمال الطبي المتعمد الذي يعاني منه معظم من في السجن".
"الآن دخل زوجي عامه السابع عشر ولا نرجو سوى التعجيل في إخراجه من السجن حتى لا يلقى مصير أسرى سبقوه داخل هذه المقبرة القذرة (...) حالته حرجة فأمعاؤه بلاستيكية، وبداخل أصابع قدميه أسياخ حديدية (بلاتين)، ويعتمد على الأكياس الصحية للتبول، مقعد لا يستطيع الحركة"، تتابع بصوت مليء بالألم، مشيرًا إلى أن حاله تلك بدأت منذ أن اعتقل حيث كان قد أصيب بست رصاصات لا تزال إحداها مستقرة إلى جوار عموده الفقري، "لا يقوى على فعل أي شيء إلا بالاعتماد على أصدقائه داخل المشفى".
ضغط على المضربين
وحتى الأسرى المضربين عن الطعام يتعمد الاحتلال الضغط عليهم بعدم منحهم حاجتهم الكافية من المياه لإجبارهم على فك الإضراب، وهو الأسلوب الذي استخدمته إدارة السجون مع الأسير مصعب الهندي (29 عامًا) بعد شهر من وجوده في عيادة الرملة.
وخاض الهندي إضرابا مفتوحا عن الطعام بعد (21) يوما من اعتقاله في الرابع من سبتمبر/ أيلول الماضي احتجاجا على اعتقاله الإداري للمرة الـ(24) قضى بمجموعها ثماني سنوات في الأسر.
ويقول والده توفيق لصحيفة "فلسطين": "نقل ابني إلى عيادة سجن الرملة، ومارس الاحتلال ضغوطا عليه لإجباره على فك الإضراب، فكان يعطيه زجاجة واحدة من المياه بدلًا من اثنتين كان يطلبهما".
ويضيف: "لم يعطه أي مدعمات طوال فترة الإضراب، واتبع سياسة الإهمال الطبي معه فلم يمنحه أي علاج لظهره من إثر إصابة تعرض إليها في اعتقاله الأخير، حتى أضرب عن الماء وبعد تدهور حالته قررت ما يسمى بمحكمة الاحتلال العليا النظر في التماس مقدم منه للنظر في اعتقاله الأخير".
جريمة يومية
وفي هذا السياق يشرح رئيس نادي الأسير بمحافظة جنين راغب أبو دياك، بأن عيادة سجن الرملة أقرب ما يكون إلى جزء متصل بالسجن، يندرج عليها ما يندرج على مرافقه، ولا تقدم خدمات صحية حقيقية للمرضى، كما لا يوجد شروط بأن يحمل من يعمل فيها شهادة مزاولة مهنة طبية، فالعلاج أصلاً غير متوفر، ولا تلتزم حكومة الاحتلال بالحقوق الطبية التي أقرتها اتفاقية جنيف لأسرى الحروب.
وأوضح أبو دياك لصحيفة "فلسطين" أن ربع الأسرى في سجون الاحتلال مرضى وذلك يعني أن هناك جريمة تجري في وضح النهار، وسياسة ممنهجة ضد الأسرى المرضى على صعيد الرعاية من حيث الكم والنوع، مما أدى إلى ارتقاء العديد من الأسرى شهداء وهم مكبلو الأيدي والأرجل.
وتنتظر سلطات الاحتلال أن يصل كل أسير مريض لمرحلة ما قبل الموت، مواصلًا المماطلة في تقديم العلاج أياً كانت حالته ودرجة خطورتها، حتى يصل إلى الرمق الأخير معدمًا من الأمل في الشفاء.